النقد الضمني في قناع بلون السماء للروائي باسم خندقجي
إبراهيم رسول
هذه الرواية التي نالت الجائزة المهمة في العالم العربي وهو رواية البوكر مان لعام 2024, هي روايةٌ للروائي الفلسطيني باسم خندقجي التي طبعتها دار الآداب بطبعتها الأولى, تتحدث عن أشياءَ كثيرة وهذه الأشياء لمْ تكنْ مباشرة ولكنّها اعتمدت على أسلوب النقد الضمني الذي يستطيع من خلالهِ المبدع أنْ يُعبّرَ عن رؤاه بصيغِ بلاغية رفيعة المستوى. تسجّل الرواية البطولة والهُوية الفلسطينية التي يُريد الكاتب إيصالها, فهذه الهُوية الضائعة أو التي يُراد لها أنْ تعيشَ الضياع والغربة وهي بداخل بيتها وأرضها! لا أصنّف الرّواية أنّها من الرّوايات التخييلة التي عمادها الخيال فحسب بلْ تؤسس لعقلانية وقراءة واعية للأحداث التاريخية الآثارية والواقعية السياسية, فالرّواية تحاولُ أنْ تُعقلن الأمور كلّها وتُخضعها للعقل وتجعله هو السيّد أو القاضي العدل في الحكم بالأمور. الروائيّ قدمَ لنا شخصيات ليست تحمل بطولة خرافية أو مستحيلة بلْ قدّمها بوطنيتها الحقيقية وإيثارها العظيم فتفاعلَ القرّاء ولا بُدَّ لهم أنْ يتفاعلوا مع الشخصّية الرئيسة ( نور) لأنّهم يرونَ فيه البطولة والوعيّ والجرأة وغيرها من الصفات الإيجابية.
العنوانُ الذي هو أولى العتبات النصيّة غير ملغز ويستطيع القارئ أنْ يُكملَ القراءة حتَّى يدرك دِلالة العنوان, القناع يُشير إلى تبدل الشخصيّة أو تقمصها لشخصيةٍ أخرى, من شخصية فلسطينية إلى يهودية, من نور إلى أور, وهذا القناع يقدم نقده الضمني في داخلهِ, لون السماء يُشير إلى النقاء والعذوبة والطهر, فالقناع يضم الشخصيّة ( النقيّة, العذبة, الطاهرة وغيرها الكثير من الصفات التي يحملها لون السماء), فهذه الإشارةُ واضحة بأنَّ شخصيّة ( نور الفلسطيني/ أور اليهودي الذي هو شخصية واحدة بقناع) هي نقيّة وتحملُ الحقّ معها لأنّ ارتباط طهرها بلون السماء يؤكد ما يروم المبدع إيصاله إلى القرّاء, لون السماء هو لون القضية الفلسطينية لا غيرها والقناع الذي ترتديه الشخصية هو قناعٌ طاهرٌ !
قراءةُ الرّواية قراءة متأنيّة يجد المُتلقي أنْ ثَمّةَ لغة داخل اللغة الأصلية للنصّ, فاللغة تحوي في داخلها لغة ثانية, ومن صفات اللغة الثانية أنّها روح النّص واللغة الأولى الظاهرة هي شكل النّص, والمعنّي بتأملِ اللغتين سيجد هذه الملحوظة واضحة, فكأنّ لسان المبدع أو قلْ قلمه يتحرّك في مسافةٍ ملّغمةٍ وهو مثقلٌ بالقيود التي أدمت يديه ورجليهِ, هذه الرسالة التي يُنتجها المبدع هي رسالة الإنسان الفلسطيني المضطهد صاحب الحق المسلوب بالقوّةِ والغطرسة والتجبّر.
نقاء سماوي
النقدُ يبدأ بالعتبةِ الأولى وهو العنوان, حينما يضع النقاء السماوي بجانبٍ ويترك الجانب الآخر الذي هو ضدٌ أزليٌ نوعيٌ للجانبِ الأوّل, هو نقدٌ في أعلى مراحل النقد بالصورةِ البلاغية الرّاقية, هو لمْ يذكرْ الجانب بالاسم الصريح بلْ تركه للخيال المتلقي ولقراءتهِ للعمل كاملًا, فلغز العنوان يُفهم كاملًا بعد قراءة الرّواية كاملة, عندها يستطيع أنْ يضع القارئ الجانب الثاني الضد للجانب الأوّل السماويّ, من هنا أسس المبدع لنقدٍ ضمنيٍ يوجهه للآخر الغاصب القاتل, ولغة الخطاب عنده تتسم بالعقلانية التي جاءت بعد هدوء عاصفةِ الغضب التي يُعاني منها الإنسان المقهور, فلوْ كان الكاتب يكتب بلحظةِ انفعالٍ لضاعَ الكثير من العقلانية التي يمزجها بخيالهِ, فهذه الرّواية تُشرك القارئ معها بالتخييل والقراءة وليس الفهم فحسب. الكاتب في الرّواية يحاولُ أنْ يستجمع المعلومات عن شخصية ( مريم المجدلية) ويريد أنْ يكتب رواية قدْ تكلّفه حياته كلّها, هذه المعلومات تحتاج منه أنْ يتقمص شخصية ثانية بقناعٍ يهودي حتَّى يستطيع أنْ يكتبَ روايته التي عزمَ على كتابتها, فالرّوائيّ لا يكتفي بالخيال وحده لهذا نراه يريد المعلومات الحقيقية , يقول في صفحة 10: فإنني سأحاول إعادة قراءة قاعدة البيانات والمعلومات التي أعددتها في سبيلِ بحثٍ علميٍّ تاريخيٍّ أثبت فشله بسبب العديد من العراقيل والتحدِّيات , من أهمها: الحضور الباهت وشبه المعدوم للمجدليَّة في متون التاريخ الرسميّ, والتاريخ المسكوت عنه , أيضًا.
هنا يؤسس لنقده الضمني الذي يبدأهُ بأدوات البحث العلمي التي يُشترط بها تجميع المعلومات ودراستها, وهو يشك بالمعلومات التي ثبتَ فشلها , وبالأخصّ أنَّ شخصية مريم المجدليَّة لها حضور باهت في التاريخ المكتوب! إذن, الرّواية ستبدو غير عقلانية إذا ما حاول كتابتها, لأنَّ المعلومات غير دقيقة والشخصيّة لا تملك المرويات الكثيرة حتَّى يشرعَ بالكتابة! هذه صورة أخرى من صور النقد الضمني الذي جاءَ مباشرة بعد عتبة العنوان. هذه الرّواية تبحثُ عن هُويةٍ وطنيةٍ لشعبٍ كاملٍ, طريقة اختيار ثيمة البحث الآثاري لمْ تكنْ اعتباطية, بلْ هي تُشيرُ إلى حالة البحث الآريكولوجي الذي يروم الكاتب من خلالهِ أنْ يُثبت وبالدليل العلّمي أحقية الشيء الذي يريد إثباته, فهذا العمل الروائيّ هو محاولة شجّاعة في إبراز الحقّ الفلسطيني. ثمّة مسألة مهمة ألمحَ إليها الكاتب بإشارة عابرة وهو أنّه يفرقُ بين الحُب والجنس, فهذه الصفة يمْ تشغلْ خياله , هذه الإشارات العابرة التي تأتي عرضًا في السرد ليست مقصودة لذاتها بلْ لأشياءَ أخرى, فهو يقول: سأجعلهما يمارسان الحبّ في بعض مراحل الرواية سعيًا وراء الإثارة. مع الانتباه لعدم الإفراط باستخدام الجنس, فأنا أريد الإثارة وليس الشبق والإباحة.( الرواية: 13), هو يمارسُ دوره النقدّي كناقدٍ وكاتبٍ في الآنِ ذاته, لأنَّ الكثير من الرّوايات تعتمد الجنس لغرض إثارة الرّغبة عند المتلقي.
النقدُ الضمنيّ الذي تضمنته الرّواية تجلّى كثيرًا في حديثه الشخصيّ المونولوجي, وليس الإشارات إلا دِلالة على غربة روحيّة عانى ويعاني منها, لأنَّ الرّوح التي تُعطي دون مقابلٍ وتُصدم بمواقفٍ قاسيةٍ مؤلمةٍ ستكون هذه الرّوح قاسية بردة الفعل التي تتخذها, وهذا ما حصّل مع الشخصية الرئيسة, فهو عانى من خذلان الأصدقاء له بصفتهِ ( الأسير) وكلمة الأسير يستخدمها إشارة إلى قضية الوطن الكبير, فهو الوطن المخذول والأسير.هناك إشارة نقدّية تجلّت بصورةٍ ضمنية ولكنها تخفي المرارة والوجع عند الشخصية, فيقول: كانت العربية لغة قلبه, والإنجليزية لغة عقله, والعبرية لغة ظله وملامحه الأشكنازية, فأصبحت الملامح قناعًا يرتديه( الرواية: 41). هذه الإشارة التي من خلالها يُقسّم اللغات على أساس العاطفة والعقل والقهر, فالعربية لغة الحبّ والعاطفة والإنجليزية لغة التفكير العقلاني ولغة العلم, أما العبرية فهي لغة البطش والقهر والتجبر, وهذه الإشارة هي آية من آيات الصور البلاغية التي ورطت في الرّواية بكثافة. إن بلاغة استعمال الكلمات وصوغها بهذا القالب البلاغي الجميل جعل من الرّواية تنفتح على صور تأويلية لا تحصى لفرطِ كثرتها, فالاعتمادُ على البلاغةِ هو اعتمادٌ غير طبيعي بلْ اعتماد إبداعيّ واضح ومؤثر, هذا الظلّ إشارة إلى المراقبة المستمرّة التي تُرافق الإنسان الفلسطيني أينما مشى, هنا هو يقدم القضية الفلسطينية مختصرة بكلمة ( الظل), وما أبلغ هذه الكلمة التي اختصر بها المأساة الكبيرة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني, هذا الظل والقناع إشارة إلى ذات الحالة وذات الألم. وما أبلغ هذه الكلمة ( الظل) ! التي كانت موفقة للغاية في التوصيف البلاغي غير العاديّ لقضيةٍ تعجز الكلمات أنْ تُعبّرَ عنها بكتبٍ ومطبوعات! استطاع الرّوائيّ أنْ يختصرها بمفردة ( الظل ). الهُوية هي ثيمةٌ أصيلة في هذه الرّواية, فالكاتب أبرز هُويته بصورةٍ سرديةٍ معتمدًا على خياله العقلانيّ وليس على خطابٍ مباشرٍ, بلْ أنت تلمح ثمّة أشياء تجيء بصورة طبيعية, فهو يفرّق بالحرّب بين القوات الصهيونية والقدس( الرواية:107), وهذه إشارة ذكية, إذ يعتمد على بناء تصوّر خيالي عند المتلقي, ويُشرك القارئ معه, فهو جرّد إسرائيل من الصفة الدولية واعتبرها قوات مغتصبة عدوانية دون أنْ يقولها مباشرة صريحة بلْ جعلنا نتخيل معه الرسمة التي رسمها لهذا الكيان أو لهذه القوات الغازية المحتلّة, وهو يفرّق أيضًا بين اليهودية كدين سماوي وبين الصهيونية كحركة سياسية! هذا التفريق هو واقعٌ حياتيٌّ عاشه الشعب الفلسطيني, فقدرة الكاتب على التخييل والتصوير جعلت من العمل يتجاوز المباشرة ويعتمد الإبداعية في التصوير.
قراءات عدة
فالكاتبُ يبدو كالخالق هنا, هو لا يخلق من عدم بلْ يحاول أنْ يجعلَ الواقع يبدو مُتخيّلًا ليفتح النّص على قراءات مُتعددة, وبالفعلِ فالنّصُ يبدو حمّال دِلالات كثيرة, وكلّها متفقة على تنوّع القراءة, فالّلغة ثرّية ومعجمه السردي هائل وكثير, لذلك جاءت روايته غير اعتيادية عبر لغة غير عادية, لغة تجاوزت وظيفتها الطبيعية إلى وظيفتها الإبداعية, فتحقق المتعة والدّهشة والحضور والتلقي الإيجابيّ, فالمقارنةُ هنا بين حرّكة سياسية ورمز دينيّ تبدو غير منطقية وغير متكافئة, إلا أنّ ذكاءَ المبدع واضحًا بجعله هذا الكيان لا يستند على معتقدٍ دينيٍّ حقيقيٍ! هذه الإشارات الضمنية التي قدّمها هي تنوّعٌ في القراءةِ لأنَّ صفة النقدَ مُتحققة عبر تقزيم هذا الطرف الغاصب وتحطيمه ثقافيًا ومعرّفيًّا, لهذا فالمقارنة بين رمز دينيّ وحرّكة سياسية ( الصهيونية) متكافئة كون الحرب هي حربٌ بين المقدس والمدنس! لهذا تبدو المقارنة ناقدة لهذه الحالة التي جعلت من المُدنس يقتل ويُدمّر المقدس والعالم في سكوتٍ مطبقٍ كأنّ على رؤوسهم الطير ! هنا قدّم قضيته الفلسطينية كاملة وباختصار أيضًّا!
الرّواية رائعة وهي تتضمن النقد في كثيرٍ من دِلالتها التي جعلت منها محط أنظار القارئ العربيّ, فهي سرديةٌ غير نمطية وتحمل هُوية الشعب المناضل في سبيل حرّيته المغتصبة, تمكّن الروائي من تقديم نفسه ككاتب مُتمكن من الأدوات الإبداعية السردية, فتقنيات السرد الجديد تجلّى بكثرة في روايتهِ, فالنقدُ الضمنيُّ في هذه الرّواية يكشف عن جوانب شخصية المبدع, هذه الشخصيّة التي اتخذت من السرد وسيلة للتعبّير عن هُويتها المضطهدة وحرّيتها الموءودة, فالقضية الوطنية التي أبرزها الكاتب من خلالِ سردهِ هي قضية الإنسان المعذّب في أرضٍ كان وبأيِّ زمان . القناعُ الذي تقنّع به نور, هو إبراز لحقيقة الكيان الصهيوني من الداخل, أي من داخل بنيته ومتعقده وسياسته, هذه الرواية غاصت في متاهات عميقة وكسرت حواجز من الصعب القرب منها حتَّى ناهيك عن ولوجها وتقديمها بهذه الصورة الفنّية, والبحث والتنقيب أي بالدليل والبرهان وليس مسألة اعتباطية أو عدوانية, هذا المبدع المسكون بالإبداع خلق لنا عالمه الذي فيه من الواقعية الشيء الكثير ومن الخيال الشيء الكثير صورًا عن طبيعة النظام الصهيوني من الداخل وأبرزها لنا بهذه الجرأة الناقدة المضمنة, النقد الضمني الذي أبرزه في الرّواية هو تسفيه وتصحيح المقارنة بين أشياء روحيّة ( القدس) والإنسان ( الفلسطيني) وأشياء مادية كالحركة السياسية الاستعمارية الصهيونية! فالمقارنة هي نقدٌ ضمنيٌّ ! كيف تكون المعادلة بهذه الصورة! هذه الصورة غير النمطية لواقع الصراع الطويل بين العالم الرّوحي والعالم المادي بين الحقّ والباطل هي معادلة غير عادلة ولا تصح إطلاقًا! هذه الصورةُ التي خرجت لنا بقراءةِ هذه الرّواية التي وثيقة إدانة أدبية وإنسانية بحقّ الظلم في أيِّ أرضٍ وفي أيٍّ زمان, إدانة بحقّ كل مرتكبي القتل والظلم بحقّ الشعب المقهور المقموع المضطهد, هذه الوثيقة الأدبية التي وصلت إلى ما وصلت إليه من التفاعل والتلقيّ الإيجابي عند جمهور القرّاء هي الانتصار للإنسانيّة المعذّبة والحقّ الذي يجب أنْ يُعلى ولا يُعلى عليه.