كان لإجماع محكمة العدل الدولية على مطالبة إسرائيل باتخاذ جميع الإجراءات الفورية اللازمة لمنع الإبادة الجماعية في غزة وقع عالمي هائل، ساهم بشكل كبير في انطلاق احتجاجات الطلبة في الولايات المتحدة لنصرة فلسطين على نحو لم تشهده البلاد منذ حرب فيتنام عام 1968. اللافت في هذه الاحتجاجات التي يطلق عليها البعض وصف “الانتفاضة” هو رمزية توقيت انطلاقها من جامعة محددة وهي جامعة كولومبيا، وفي شهر نيسان، حيث كانت قد انطلقت في الشهر نفسه ومن الجامعة ذاتها احتجاجات الطلبة قبل 56 عاماً والتي انتهت بانسحاب القوات الأمريكية من فيتنام. لقد توسعت الاحتجاجات هذه المرة وانتشرت كالنار في الهشيم في غضون أسبوع واحد لتمتد إلى 40 موقعاً تعليمياً بارزاً عبر الولايات المتحدة شمل كبريات جامعات النخبة الأمريكية قبل أن تبلغ جامعات في عواصم غربية كبرى. ولعل أبرز ما يقلق السلطات الامريكية في هذه الاحتجاجات هو انطلاقها من جامعات مخصصة للنخبة، بل لنخبة النخبة، وهي جامعات ليس بوسع أي طالب الدخول إليها، حيث يتراوح معدل الأجور التدريسية للطالب الواحد فيها ما بين 50-80 ألف دولار سنوياً. بالتالي، فان هذه الجامعات هي بالواقع الحاضنة التي يخرج منها أبناء الطبقة المتنفذة في الولايات المتحدة ليشغلوا مواقع الريادة السياسية والاقتصادية في بلادهم. وتضم هذه الجامعات أقساما متخصصة في العلوم الإنسانية، ومن بينها دراسات الشرق الأوسط، يُدرس فيها تاريخ العالم العربي بشكل أكاديمي رصين متنوع المصادر، يطلع فيها الطلبة على ما كتبه ابن خلدون وابن رشد، ويدرسون فلسفة كارل ماركس في الاقتصاد الاشتراكي جنباً إلى جنب مع فلسفة آدم سميث في الاقتصاد الليبرالي، ولا يتخرج طلبتها قبل قراءة ما قاله إدوارد سعيد عن فلسطين، وما كتبه برنارد لويس ضد العرب. على هذه الخلفية، يتخرج العديد من الخريجين متعاطفين مع القضية الفلسطينية إلاّ إذا اختاروا بعد تخرجهم نهجاً سياسياً يخدم مصالح ضيقة لمؤسسات سياسية أو اقتصادية. وخلافا لما يزعمه البعض بأن هذه الاحتجاجات معادية للسامية، فانها تضم بين صفوفها العديد من الطلبة اليهود التقدميين الرافضين لسياسة الفصل العنصري الاسرائيلية، غير أن هذا لا ينفي حدوث بعض المواجهات بين طلبة يهود متشددين وبين المحتجين. ويؤكد الصحفيون الغربيون الذين زاروا جامعة كولومبيا، أن قادة الاحتجاجات كانوا قد أمضوا وقتاً طويلا في مكتبات جامعتهم درسوا خلالها تجربة احتجاجات عام 1968 قبل بدء تحركهم، وبذلك استعدوا لكل ما يمكن أن يواجهوه لقمع تحركهم، فأسسوا إذاعات محلية خاصة بالطلبة، وصحفاً يومية، وناطقين باسمهم. إن الحقيقة التي تؤرق الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة هي أنها أمام جيل جديد يرفض السردية الكولونيالية التي روجت لها طبقتها الحاكمة بشأن تاريخ اسرائيل وتسامحها، بعد أن نجحت لعقود طويلة في اخفاء طبيعة النظام العنصرية في إسرائيل وجرائم الإبادة البشرية المرتكبة بحق مالكي الارض الأصليين. إن ما يضاعف قلق الطبقة الحاكمة هو أن تسلم هذا الجيل الجديد زمام المسؤولية في الولايات المتحدة بات مجرد مسألة وقت، في حين تدرك جميع الأطراف أن المعركة ستكون صعبة ومعقدة ومكلفة، ويكفي الاشارة في هذا الصدد إلى أن عدد الطلبة الأمريكيين المعتقلين بلغ حتى مطلع شهر مايس الجاري أكثر من 2000 طالب. وعلى الرغم من الانتشار الواسع الذي حققته حركة الاحتجاجات الطلابية هذه، إلاّ أن المعركة التي يخوضها هؤلاء الطلبة من المرجح أن تكون طويلة، ولنا بمعركة انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام خير سابقة حيث كانت قد استغرقت خمس سنوات لتحقق غاياتها. إن هذه المعركة التي أشعلت فلسطين نيران جذوتها، وأيقظت شعوبا من غفوتها، تدور اليوم في ظروف دولية مختلفة عن أواخر ستينيات القرن الماضي، بعد أن تحولت إلى معركة تهدد نظاماً دولياً مجحفاً عمره أكثر من مائة عام، ولذلك فأن نجاحها قد يتمخض عن تغيير في طبيعة التوازنات الدولية لا يُعرف حتى الآن شكله. بيد أن ما يؤسف له أن هذا الصراع المصيري الذي تدور رحاه في الولايات المتحدة بشكل رئيسي ـ حتى الآن ـ لا يقدم أية ضمانات لصالح العرب، لا سيما أن النظام العربي الرسمي ما برح أما غائباً أو يعمل ضد مصالح شعبه وتطلعاته.