التجريب والتجنيس في كتاب (مقاربات نقدية)
محمود خيون
لقد حاول الباحث عباس عجاح في كتابه( مقاربات نقدية في إشكالية القصة القصيرة جدا ) أن يسلط الضوء على قضية مهمة وتعريفية لفن القصة القصيرة أو( الاقصوصة ) في الأدب المحلي والعربي حتى يصل الأمر به إلى اقصوصة الغرب التي بدأت رحلتها مع الكاتب الروسي” غوغول” بعد روايته “ المعطف “ وامتازت الاقصوصة في بلادنا من خلال ماكتبه القاص الراحل نزاز عباس في مجموعته “ زقاق الفئران” كذلك غائب طعمة فرمان ونجم ولي وادمون صبري وموفق خضر وموسى كريدي وذو النون أيوب وعبد الحق فاضل ومحمود احمد السيد ومن الأحياء عبد الرحمن مجيد الربيعي وعلي خيون واحمد خلف وغيرهم..وفي مصر ظهرت الاقصوصة على يد الكثير من الكتاب ومن ابرزهم محمد عبد الحليم عبد الله..وكانت هناك الكثير من اصدارات قصص( الجيب) القصيرة التي يقتنيها المسافرون عند محطات القطارات والمترو...
لقد وزع الباحث عباس عجاح كتابه إلى ثلاثة فصول حمل الفصل الأول الإشكاليات النقدية بينما سلط الفصل الثاني على إشكالات التداخل الاجناسي اما الفصل الثالث فقد احتوى على أبرز الإحداثيات المصاحبة لظهور وانتشار هذا الفن القصصي.. وفيها بين عجاج عن رؤية عميقة وشاملة أراد بها أن يقف عن مقربة من ابجديات هذا النوع من الفن الذي صار له الكثير من القراء وهمل النقاد على اختلاف اصنافهم محتوياتهم وأسراره وطرق التعامل مع مراحله منذ أول أقصوصة أو قصة قصيرة ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وبزوغ علامات مضيئة لهذا النوع...إذ تمتاز الاقصوصة بموجز الحدث أو الإيجاز بالفكرة العامة للقصة وتكون عملية السرد فيها على قدر ضئيل من التداخلات والتشعبات التي امتاز بها هذا النوع من الفنون الادبية..كما وصف الناقد صباح محسن كاظم في مقدمته عن هذا النوع من الكتابة بالقول( أن فن الاقصوصة ميزته عن الأنماط السائدة في القصة القدرة على الوصول للذروة من خلال المفارقة و المفاجأة والضربة الفنية الساخرة أو المؤلمة في صنع الحدث والمكان والزمان والشخصية بشكل موجز غاية في الحساسية المفرطة بالتركيز المختصر كالنص الشعري النثري المختزل عند من يتقن لعبة النص في إيجاز الإيجاز )..
ومن هنا تتضح الصورة أكثر فأكثر لما أراد أن يأتي به الباحث عباس عجاح من رؤية مبتكرة لهذا النوع من الفن القصصي...وعلى حد تعبير الباحث عجاج بأن المساحة الضيقة لفضاء البناء السردي في القصة القصيرة جدا وضعت الكاتب في معصرة إفراز المهارات التقنية، واستفزاز ثقافته العامة المكتنزة للخروج بالنص إلى منصة الإبداع، مما دعا للخروج بتنوع وتمايز التجارب القصصية على مدى تأريخ إنتشار هذا الفن القصصي...
ويبقى تجنيس هذا النوع من الكتابة عاملا مهما وفريدا في ايصال الفكرة العامة التي تتطلب إيجاز السرد ومحاصرة تشعب الأفكار وامتداد الأحداث حتى تصل حدود القصة المطولة والتي قد ينتج عنها فكرة كتابة رواية مثلا وهناك أمثلة كثيرة على هذا النوع الروايات وقد استخدمها الكاتب الكبير نجيب محفوظ في أكثر من عمل روائي، فالقاريء الذي ينهي أي عمل روائي لنجيب محفوظ بأستطاعته تلخيص فكرة الرواية على شكل قصة قصيرة جدا من دون التوسع بتمديد الأفكار والأحداث وتداخل السناريوهات وكذلك الحال بالنسبة للاعمال الروائية الكبيرة كرواية( الساعة الخامسة والعشرون ) لقسطنطين جيبور جيو و( مائة عام من العزلة ) لماركيز أو ( شرق المتوسط ) لعبد الرحمن منيف أو( الوشم ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي أو (الرجع البعيد )لفؤاد التكرلي وغيرها من الأفكار الصغيرة التي استطاع كتابها تحويلها الى روايات واعمال كبيرة بحجمها وتشعب وتنوع أحداثها وبروز شخصيات إضافية عليها...
أود أن أؤكد من أن فن الاقصوصة ليس من السهل الولوج في عالمه الكبير والغويط..فعملية الإيجاز للحدث ليس بالأمر اليسير إنما تتطلب مهارة عالية وقدرة على المناورة بالحدث وجعله يصل إلى القاريء من خلال اقصوصة قصيرة جدا أو قصيدة نثر موجزة..
وقد أوضح الباحث عباس عجاح رؤيته عن أدب القصة القصيرة بالقول( وليس بعيدا عن القصة القصيرة جدا، نجد أن العديد من الباحثين يرون بأن ظهور القصة القصيرة جدا عربيا جاء نتيجة تأثرها بالأدب الغربي وادب أمريكا اللاتينية، أو أن انتشارها ظهر بعد ترجمة العشري لانفعالات ناتالي ساروت أو على أثر التقليد لقصة همنغواي “ للبيع حذا طفل لم يلبس قط ) اقول لقد أضاف الباحث عباس عجاح البدري في كتابه( مقاربات نقدية في إشكالية القصة القصيرة جدا ) رؤى جديدة في توضيح تلك القضية المهمة في تأريخ القصة العراقية أو الاقصوصة وربطها في قصيدة النثر الموجزة التي صارت في وقت ما أشبه بالاقصوصة التي تتحدث عن قضية ما... ويعد الكتاب وثيقة تحليلية دقيقة لموضوعة غاية في الأهمية في تأريخ القصة القصيرة التي رسمت أبعادا حقيقية لهويتها النموذجية في التطور والتنوع الفني والسردي.