الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ميدان الحرب الجديد.. مقاربة بين الإنسان والذكاء الإصطناعي

بواسطة azzaman

ميدان الحرب الجديد.. مقاربة بين الإنسان والذكاء الإصطناعي

قتيبة آل غصيبة 

 

لم تعد الحرب تُعلن ببيان رسمي؛ ولا تبدأ بصفارات الإنذار؛ ولا تُخاض دائماً في الميادين وساحات القتال، إنها قد تبدأ اليوم بانقطاع غامض في الاتصالات؛ أو بانهيار مفاجئ في الثقة تُشعل الرأي العام؛ أو بقرار يُتخذ في غرفة لا يسمع فيها صوت المدافع، فقد يصل الجندي إلى ساحة القتال؛ ليكتشف أن المعركة بدأت قبله بزمن طويل؛ وأن نتائجها رُسمت جزئياً قبل أن تُطلق الرصاصة الأولى.

أزقة غزة

هذه ليست رواية مستقبلية ولا خيالًا تقنيًا، إنها ملامح الحروب الجارية الآن، فمن خنادق الشرق الأوكراني إلى أزقة غزة المدمرة؛ تتبدّى حقيقة لا يمكن إنكارها: أن الحروب لا تزال تُحسم بالقوة المسلحة، وبالسيطرة على الأرض، وبمن يصمد حين تنفذ الخيارات، فالمدن لا تُحتل الخوارزميات؛ والسيادة لا تُفرض الشاشات؛ والدم لا يزال العامل الحاسم حين يبلغ الصراع ذروته، فكل خطاب يتجاهل هذه الحقيقة إنما يهرب من الواقع إلى وهم مريح لا تصمد أمامه الوقائع. غير أن الاكتفاء بهذه الحقيقة وحدها يُخفي تحولاً أخطر وأعمق، فالحرب؛ وإن بقيت في جوهرها صراعاً عنيفاً على الأرض؛ لم تعد محصورة في الميدان التقليدي، لقد اتّسع فضاؤها؛ وتعدّدت جبهتها؛ وتحوّل الصراع إلى عملية مركّبة تُدار في العلن والخفاء معاً. الجندي الذي يقاتل اليوم لا يتحرك في ساحة مغلقة، بل في بيئة مكشوفة، ترصده الأقمار الصناعية؛ وتلاحقه الطائرات المسيرة؛ وتُحلّل خطواته خوارزميات لا تنام. إن الذكاء الاصطناعي لم يأتِ لينهي دور المقاتل؛ بل ليُعيد ترتيب العلاقة بين المعركة والحرب، فالمعركة لا تزال تُحسم بالسلاح والرجال، لكن الحرب باتت تُدار بالعقل الحسابي؛ والبيانات؛ وبالقدرة على التحكم بالإيقاع والزمن الكلفة، ولم يعد السؤال من ينتصر في الاشتباك؛ بل من يستطيع الاستمرار؛ ومن يملك القدرة على تحويل القوة العسكرية إلى ضغط سياسي طويل الأمد. تُظهر الحروب الجارية زيف الرهان على التفوق التقني بوصفه طريقاً مضموناً للنصر، فالجيوش التي تمتلك أحدث الأنظمة تُفاجأ بخصوم أقل تجهيزاً؛ لكنهم أكثر استعداداً للتضحيات والخسارة؛ وأشد تمسكًا بقضيتهم؛ وأطول نفساً في الصراع، فالتكنولوجيا تحسّن الأداء؛ لكنها لا تصنع الإرادة؛ ولا تمنح الشرعية؛ ولا تخلق صبراً استراتيجيا، فهذه صفات لا تزال حكراً على الإنسان؛ لا على الآلة.

عقلية قديمة

وفي المقابل، لم يعد ممكناً خوض حرب حديثة بعقلية قديمة، فالمواجهة لم تعد عسكرية خالصة؛ بل باتت صراعاً على الوعي والمعنى والرواية، قد تُكسَب معركة في الميدان؛ وتُخسَر في الإعلام، قد تُسيطر على أرض؛ وتنهار شرعيتك أمام الرأي العام، وقد تُراكم انتصارات تكتيكي؛ بينما يتآكل موقعك السياسي لأنك عجزت عن إدارة صورة الحرب وتأثيرها.

ما تكشفه حروب هذا العصر ليس ولادة عالم بلا جنود؛ بل ولادة عالم يُزجُّ فيه الجندي داخل شبكة معقدة من القرارات والتحليل والتأثير.

 فالدم لا يزال يُراق على الأرض؛ لكن مسار الصراع يُحدَّد في فضاءات أبعد من الخناق، وإن من يملك القدرة على الربط بين الميدان والسياسة والإعلام والتكنولوجيا؛ هو من يمسك بالخيوط الحقيقية للحرب. إن أخطر الأوهام المعاصرة هو الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي قادر على أن يخوض الحرب بدل الإنسان؛ أو أن يحسمها دون كلفة بشرية، فالحرب؛ في جوهرها؛ لا تزال اختباراً للإرادة قبل أن تكون استعراضًا للأدوات، فالآلة تُسرّع القرار؛ لكنها لا تتحمّل تبعاته، تُحسّن الدقة؛ لكنها لا تخلق المعنى، تُضاعف القوة؛ لكنها لا تحدد الغاية.

 في الحروب المقبلة؛ لن ينتصر من يملك أقوى سلاح وحده؛ ولا من يمتلك أذكى خوارزمية فقط ، بل من ينجح في الجمع بين الجندي المقاتل؛ والمنظومة الذكية؛ والرؤية السياسية القادرة على تحويل القوة إلى نتيجة. من يعجز عن فهم هذا التوازن سيقاتل بشجاعة؛ وقد ينتصر في معركة؛ لكنه سيكتشف متأخرًا أن الحرب كانت تُدار في مكان آخر.

 وحقيقة فإن الحرب لم تدخل عصر ما بعد الإنسان؛ لكنها دخلت عصر الإنسان المُحاصر بالآلة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة؛ سيبقى أسير معارك الأمس؛ بينما يُعاد رسم مستقبل الصراع من حوله بلا ضجيج.

والله المستعان


مشاهدات 34
الكاتب قتيبة آل غصيبة 
أضيف 2025/12/23 - 5:18 PM
آخر تحديث 2025/12/24 - 1:34 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 68 الشهر 17589 الكلي 13001494
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير