الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشيخ محمد رضا المظفر.. عقل يتعامل مع الفوضى العلمية كمهندس


الشيخ محمد رضا المظفر.. عقل يتعامل مع الفوضى العلمية كمهندس

مجيد العقابي

 

من بين الأسماء التي مرّت في تجربتي العلمية يبرز الشيخ محمد رضا المظفّر بوصفه واحدًا من القلائل الذين لم ينشغلوا بزيادة الحواشي بقدر انشغالهم بإعادة ترتيب العقل نفسه. لم يكن همه أن يضيف كتابًا إلى رفوف الحوزة، بل أن يعيد النظر في الطريقة التي يتعلم بها الطالب، وفي شكل العلوم، وفي العلاقة بين المصطلح وبين البناء الداخلي للفكر. ولهذا فإن كتبه الثلاثة المشهورة: «المنطق» و«أصول الفقه» و«عقائد الإمامية» ليست، في تقديري، مجرد متون دراسية بل مفاتيح تأسيسية لعقل حوزوي حديث.

في «المنطق» – الذي شرّفتني الظروف بأن أدرّسه لطلاب الحوزة، كما درّست لهم «أصول الفقه» و«عقائد الإمامية» – لا يشعر الطالب أنه أمام نص جامد يعرّفه بالحد والقياس والبرهان فقط، بل أمام تمرين مستمر على التفكير المنظم، وعلى التمييز بين الدعوى والدليل، وعلى الانتباه إلى طرق الاستدلال قبل نتائجها. خلال تلك الدروس كنت أرى بوضوح كيف ينتقل الطالب، عبر صفحات المظفّر، من الفوضى الذهنية إلى نوع من الانضباط الداخلي، وكيف تتحول القواعد المنطقية إلى جزء من طريقة نظره إلى النص والواقع معاً.

وفي «أصول الفقه» نجد نفس الروح: ليس الهدف استعراض القدرة على الغوص في التعقيد الموروث، بل تفكيك هذا التعقيد وإعادة ترتيبه بصورة تجعل علم الأصول أداة حقيقية لفهم الدليل، لا متاهة اصولية تستهلك عمر الطالب. لقد صاغ المظفّر هذا العلم بأسلوب يفتح الطريق أمام الداخل الجديد إلى الحوزة ولا يغلقه في وجهه من أول صفحة، فخفّف من الحشو، وضبط العناوين، وربط بين المسائل، وأعطى لعلم الأصول وجهًا تربويًا لا يقل عن وجهه الاستدلالي.

أما «عقائد الإمامية» فهو نموذج آخر على الطريقة نفسها، حيث تُعرض العقيدة الإمامية بلغة هادئة واضحة، بلا صراخ مذهبي، وبلا تشنج في الخطاب، وباعتماد على البرهان أكثر من الاعتماد على إثارة العاطفة أو تقسيم الناس إلى معسكرات؛ وهذا جعل الكتاب صالحًا للتدريس، ومفيدًا للحوار، ومناسبًا لقارئ يريد أن يفهم لا أن يتخاصم.

 

غير أن الشيخ المظفّر لم يتوقف عند حدود الكتاب، بل فكّر في البنية المؤسسية للتعليم الديني نفسها، فكانت تجربته في تأسيس «كلية الفقه» في النجف علامة فارقة في تاريخ الحوزة. حيث كانت إعلانًا عن ضرورة الانتقال من العشوائية التعليمية إلى نوع من التنظيم، ومن الاعتماد المطلق على الجهد الفردي إلى إدخال روح البرنامج والمنهج والتخطيط. لم يكن هدفه أن يحوّل الحوزة إلى جامعة بالمعنى الغربي، ولا أن يقطع مع تراث الدرس التقليدي، بل أن يستفيد من مزايا النمط الأكاديمي الحديث في خدمة العلم الشرعي، فيحصل الطالب على وضوح في المسار، وتكامل في المواد، وترابط بين ما يدرسه في المنطق والأصول والعقائد والفقه وسائر العلوم. من هنا يمكن القول إن تأثير المظفّر لم يكن محصورًا في نصوصه، بل امتد إلى البنية الذهنية والمؤسسية معًا، لأنه فهم أن بناء العقل لا ينفصل عن بناء الإطار الذي يحتضنه.

في تجربتي مع كتبه، تدريسًا وقراءةً، أشعر أن الشيخ المظفّر كان يتعامل مع العلوم الشرعية كما يتعامل مهندس حقيقي مع مبنى يحتاج إلى إعادة تصميم؛ لا يكتفي بترميم الواجهات، بل يراجع الخرائط، ويعيد توزيع الأعمدة، ويضبط نقاط الضعف، ويضع أمام الساكنين طريقًا آمنًا للحركة. من هنا تأتي أهميته: لم يقدّم «مضمونًا» فحسب، بل قدّم «طريقة»، وجعل الطالب يتذوق لأول مرة معنى أن تكون للعلم هندسة داخلية، لا أن يكون مجرد أكوام معلومات. وإذا كان مشروعه قد توقف بفعل محدودية العمر والظروف، وبقي بحاجة إلى من يكمله على مستوى ربط الحوزة بالعلوم الإنسانية الحديثة، فإن ما أنجزه يكفي ليضعه في موقع المؤسِّس لا الشارح؛ المؤسِّس الذي أعاد تعريف البداية الصحيحة لطالب العلم، وعلّمنا أن أول إصلاح في الدين يبدأ من إصلاح العقل الذي يدرسه، ومن ترتيب الأدوات التي يحملها، قبل الحديث عن المشاريع الكبرى والشعارات العالية. هذا هو الشيخ محمد رضا المظفّر كما أراه اليوم: معلّمٌ صنع منهجًا، وعالمٌ خدم الحوزة من الداخل، ورجلٌ بقيت كتبه معنا لا لأننا نكررها، بل لأننا كلما فتحناها وجدنا فيها خطوة أخرى نحو عقلٍ أوضح وطريقٍ أمتن.

 


مشاهدات 132
الكاتب مجيد العقابي
أضيف 2025/12/13 - 1:01 AM
آخر تحديث 2025/12/13 - 7:27 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 669 الشهر 9712 الكلي 12793617
الوقت الآن
السبت 2025/12/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير