السيستاني .. معزّزاً للهوية الوطنية
منتصر صباح الحسناوي
في كلِّ عام تعود ذكرى الانتصار على تنظيم داعش لتذكّر العراقيين بما مرّ بهم من خوفٍ وانكسار وبما مرّ بهم أيضاً من قوةٍ ظهرت في اللحظة التي كاد البلد فيها أن يغيب، وفي هذه الذكرى يبرز اسم السيد علي السيستاني كحامٍ لوطنٍ بالكلمة والموقف وكصوتٍ مؤثر في الوعي العام وفي صَون الهوية الوطنية حين كانت تختبر أقسى مراحلها.
أكتب عنه هنا كمواطنٍ عراقي يستعيد صورة رجلٍ أصبح الأبرز والأهم في الذاكرة العراقية باتّفاق المختلفين، عاش حياته على بساطةٍ نادرة، اختار الهدوء طريقاً وابتعد عن كلِّ ما يرتبط بالرغبة في الظهور.
هذا النموذج السلوكي منح حضوره معنىً مختلفاً، حضور يُقاس بقدرته على تهدئة النفوس أكثر من قدرته على تحريك الجماهير وأكسبه مكانة جعلته نقطة توازن في بلدٍ اعتاد تقلبات السياسة وسرعة الصراعات.
قبل ظهور داعش بسنوات، كانت البلادُ تمرُّ بمرحلة احتقانٍ طائفي حاد، تغذّيه مؤثراتٌ خارجية وفوضى داخلية مع انهيار المؤسسات. كان الخوف ينتشر بين البيوت وكانت الشروخ تتوسع بصمت، في تلك المرحلة أصدر السيستاني توجيهات متتابعة شددت على حماية الأنفس وتهدئة الخطاب وإبعاد الناس عن لغة الكراهية.
شكّل هذا كلُّه سياجاً أخلاقياً حافظ على ما تبقى من النسيج الاجتماعي وساعد في منع العراق من الانزلاق إلى حرب لا عودة منها.
ومن خلال تلك المواقف أدرك العراقيون أنَّ الاعتدال موقفٌ فكري وضرورةٌ لإنقاذ وطن.
جهاد كفائي
ثم جاءت اللحظة التي غيّرت مسار التاريخ، ففي صيف 2014، ومع سقوط المدن بيد عصابات الإرهاب وتراجع المعنويات، صدرت فتوى الجهاد الكفائي التي حملت نداءً للدفاع عن البيت العراقي بكلِّ ما يمثّله من ذاكرة وهوية وناس.
شعر المواطن يومها أنَّ العراق ما زال قادراً على حماية نفسه، حمل الناسُ النداءَ في قلوبهم قبل أسلحتهم وتشكلّت موجة دفاع أعادت للدولة قدرتها على الوقوف ومنحت المجتمع ثقةً بذاته.
ومع اشتّداد المعارك، حافظ السيد السيستاني على اتجاه ثابت «حفظ الأنفس» ، أصدر توجيهاتٍ تمنع الاعتداء وتدعو إلى حماية المدنيين وتؤكد أنَّ الانتصار الحقيقي هو الذي لا يُهدر فيه دم بريء.
أصبحت وصاياه اليومية مرجعاً للقادة والمقاتلين وأسهمت في رسم صورة مختلفة للنصر، نصرٌ يقوم على حماية الإنسان قبل تحرير الأرض، ومع الوقت تحولت هذه المنهجية إلى قاعدة أخلاقية تُعيد ضبط المزاج العام كلما اقترب من التطرف أو التشدد.
ومن بيتٍ بسيط في النجف، استقبل السيستاني أهم رموز الاعتدال في العالم: الأمين العام للأمم المتحدة، بابا الفاتيكان، وشخصياتٍ دولية رأت فيه رمزاً للسلام العالمي، وصوتاً يعبّر عن ضمير العراق.
وكانت تلك اللقاءات اعترافاً صريحاً بوزن الرجل وتأثيره في صناعة الاعتدال.
هذا الدور الداخلي والخارجي أسهم، من دون شعور، في تعزيز الهوية الوطنية العراقية، فلم يتحدث بوصفه ممثلاً لطائفة وإنما بوصفه شخصية تعدُ الوطن مساحة جامعة لا تقبل القسمة.
ومع مرور الوقت استعاد العراقيون ثقتهم بفكرة الوطن الذي يتسع للجميع، أصبحت كلماته جزءاً من الذاكرة العامة وتحوّل اسمه إلى رمزٍ ثقافيٍ واجتماعيٍ ينتمي إلى كلِّ العراقيين مهما اختلفت اتجاهاتهم.
وحين نتحدث عن السيستاني في ذكرى الانتصار على داعش، فإننا نتحدث عن العراق نفسه؛ العراق الذي قاوم الانهيار بكلمة حكيمة واستعاد توازنه بصوتٍ هادئ واكتشف أنَّ الاعتدال يمكن أن يكون قوةً تنقذ وطناً بأكمله.
سيظلُّ السيد السيستاني حاضراً في الوعي الوطني بوصفه معزّزاً للهوية العراقية، ورمزاً لحكمةٍ ساعدت هذا البلد على النهوض كلما اقترب من العتمة.السيستاني… معزّزاً للهوية الوطنية.