حين يغدو الكتاب لسانًا يهمس للحياة
محمد خضير الانباري
عندما تستلقي مساءَ على سريركَ ، بعدَ أنْ تقضي، ما خططتْ لهُ منْ أعمالٍ يومك، وتمسكَ بكتابِ تقلبِ صفحاتهِ لتنهلَ منْ محتواه، ما يشبعُ شغفكَ بالعلمِ والمعرفة، ربما يخطرُ ببالكَ أنْ تبحثَ عنْ معنى الكتابِ نفسه، فستجدهُ عبارةٌ عنْ مجموعةٍ منْ الأوراقِ المكتوبةِ أوْ المطبوعة، المجمعةَ داخلَ غلافٍ واحد، فيهِ معلوماتٌ حولَ موضوعٍ محدد، ولغويا فالكتاب، مشتق منْ الكتب؛ أيْ الجمعِ والضم، ويقصدَ بهِ كلُ ما كتبَ وجمعٌ بعضهِ إلى بعض، وفي الاصطلاح، فهوَ وعاءُ معرفيٌ ينقلُ منْ خلالهِ العلمُ والأفكارُ والأدبُ عنْ طريقِ الكتابةِ.
أنَ التعمقَ أكثرَ فأكثرَ في معاني الكتابِ الأخرى، فتجده، ليسَ مجردَ أوراقِ تقلب، ولا حبر يستلقي على بياضٍ صامت؛ إنهُ كائنُ حي، يتنفسَ بينَ يدي قارئه، وينبضَ بقدر، ما تنصتُ إليهِ الروح، وحينُ تفتحه، لا تفتحُ أوراقا، بلْ تشرعُ بابا على عالمٍ آخر، يشبهكَ أحيانا، ويدهشكَ أحيانا، ويعيدَ تشكيلكَ دائما، فمنذُ اللحظةِ الأولى التي خاطبَ اللهُ فيها الإنسانُ بقولهِ تعالى: (اقرأْ باسمِ ربكَ الذي خلقَ) (العلق: 1 ) .
لقدْ أصبحَ الكتابُ رفيقَ الطريق، ومفتاحَ النور، دليلُ المسافرِ في دهاليزِ المعرفة، وهوَ ليسَ وعاءً للعلمِ وحده، بلْ وعاءً للروح، تختبئَ فيهِ أسرارُ البشر، وقلوبهم، وحكاياتهمْ الصغيرةُ التي ما تزالُ تنبضُ رغمَ مرورِ القرون. فالكتابُ مرآةٌ صافية، كلما اقتربتْ منها رأيتُ نفسكَ تشكلا منْ جديد، تريكَ ما تخشاه، وما تتوقُ إليه، وما كنتُ تغفلُ عنهُ في زحمةِ الحياة، وهوَ أيضا جسر يمتدُ بينَ الماضي والمستقبل، يحملَ على ألواحهِ أصواتُ منْ رحلوا ليصلها بمنْ سيأتون، فلا يضيعُ أثر، ولا تموتُ تجربة.
وفي هذا السياقِ يقولُ الجاحظ: ( الكتابُ هوَ الجليسُ الذي لا يطريك، والصديقُ الذي لا يغريك)، وكيفَ يمكنُ أنْ يغريكَ منْ يفتحُ بصيرتكَ على الحقيقةِ لا على الهوى..! فهوَ في وحدتكَ أنيس، وفي بحثكَ دليل، وفي ألمكَ بلسم، وفي حيرتكَ يدا تمتدُ لتقودكَ إلى الطريق. فالرجلُ الجاهلُ يقاد، أما العارفْ فيقودُ غيره. وليسَ كلٌ منْ حملِ كتابا نالَ الحكمة؛ فالمعرفةُ لا تقاسُ بثقلِ الكتب، بلْ بسموِ الفهمِ وعمقِ الإدراك. وحينُ تقرأُ الكتاب، فأنتَ لا تقلبَ صفحاتٍ فحسب؛ بلْ تحاورَ صاحبُ فكرٍ عاشَ قبلكَ أوْ يجاوركَ في الزمن، وتجلسَ معهُ في مجلسٍ خفيٍ لا يطلعُ عليهِ سواك، ولهذا قال: الفلاسفةُ إنَ القراءةَ تحررَ العقل، فهيَ تزيلُ غبارَ القيود، وتمنحكَ جناحينِ تطيرُ بهما نحوَ عوالمَ لمْ تشهدْ ولادتك، وتتعلمَ بها لغاتٌ لمْ يسبقْ لسانكَ أنَ نطقها. فالكتابُ مسرحٌ للخيال، تضاء فيهِ مصابيحُ لا تنطفئ، وتسمعَ أصواتٌ لا تتكرر، إنهُ مهدَ الأفكار، ومتحفَ الأرواح، وذاكرةُ الحضاراتِ التي لولا الكتابُ لالتهمها النسيانِ وابتلعها الصمت، مثلما قال شاعرنا الكبير ابو الطيب المتنبي: (أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ.... وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابٌ ) ؛ فهذهِ العبارةُ تختزلُ رحلةُ الإنسانِ معَ المعرفة، وتكشفَ أنَ الكتابَ ليسَ مجردَ رفيق، بلْ صديقٌ لا يمل، وتاج للروح، ونافذةٌ تطلُ بكَ على الحرية. فإنَّ الكِتاب لم يزل خيرَ جليسٍ! في زمن الفوضى التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، حيث سُلبت حرّيتنا في القراءة تحت وطأة طغيان المحتوى المرئي والمسموع.
ونختم مقالتنا بقولهِ تعالى ( قلَ كفى باللهِ شهيدا بيني وبينكمْ ومنْ عندهِ علمُ الكتابِ) ، (الرعد: 43 (.