الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
(أطراف الحديث) برنامج يصنع الذاكرة ويصون الهوية

بواسطة azzaman

أحد أهم التجارب التلفزيونية العراقية وأكثرها ثباتاً وتأثيراً

(أطراف الحديث) برنامج يصنع الذاكرة ويصون الهوية

حامد رويد

 

حين نتأمل برامج التلفزيون في العقود الأخيرة، سنجد أن معظمها يُولد سريعاً ويمضي سريعاً. وحدها الأعمال التي تمتلك فلسفة تأسيسية راسخة، ورؤية فنية ناضجة، هي التي تقاوم الزمن وتتحول إلى جزءٍ من الوعي الجمعي. ومن بين هذه النماذج النادرة يبرز برنامج (أطراف الحديث)، على قناة (الشرقية)،أحد أهم التجارب التلفزيونية العراقية وأكثرها ثباتاً وتأثيراً، وقد حافظ على حضوره لأكثر من عقدين دون أن يفقد وهجه أو رسالته.

سرّ هذه الديمومة لا يعود إلى عامل واحد، بل إلى منظومة متكاملة صيغت بعناية، تبدأ من اختيار الاسم وتنتهي باللمسة الأخيرة التي يضعها المخرج. وكل تفصيلة فيه لم تأتِ مصادفة، بل كانت لبنةً في عمارةٍ إعلامية تعدّ اليوم واحدة من أهم التجارب الثقافية العربية.

*اختيار اسم أطراف الحديث لم يكن خياراً لفظياً عابراً، بل رؤية لغوية ذكية تحمل معنى الامتداد، الانفتاح، والتقاط الجوهر من الحواف. الاسم وحده يُوحي بأن البرنامج ليس منبراً صدامياً أو مباشراً، بل مساحة حرة لإضاءة الإبداع من زواياه المتعددة، وتقديم المبدعين العراقيين بعمقٍ إنساني، لا عبر عناوينهم فقط.هذا الاسم أصبح بمرور الزمن جزءاً من الذاكرة العراقية، لمرونته اللغوية ورنينه السهل الممتنع، وقدرته على احتواء كل الحقول: الأدب، الفن، العلم، الاجتماع، وكل مساحات المعرفة الإنسانية.

*من أبرز أسرار البرنامج اختياره المدهش لمقطوعة “ليليم لي” التركية. موسيقى شفافة، شاعرة، تملك قدرة استثنائية على فتح بوابة الوجدان قبل أن يبدأ الحوار. هذه الشارة لم تكن مجرد افتتاحية؛ بل أصبحت توقيعاً سمعياً مقترناً بالبرنامج نفسه. روح المقطوعة تتناغم مع روح البرنامج: هادئة، تأملية، ولكنها محفَّزة لبدء رحلة معرفية جديدة. وهكذا تحوّل اللحن إلى جزء من هوية البرنامج، وإشارةٍ أولى على أن ما سيأتي بعدها ليس مجرد لقاء، بل تجربة ثقافية مكتملة.

بنية فنية

*في البرامج الثقافية، قد يمرّ الصوت مروراً عادياً، لكن في (أطراف الحديث) تحوّل إلى جزء من البنية الفنية.

صوت عبد الكامل الخلايلة، بصياغته الأكاديمية ورخامة طبقاته، قدّم للبرنامج بوابة افتتاحية راقية. أسلوبه أقرب إلى اللغة الفصيحة الهادئة التي تُنصت لها الأذن قبل العقل، وتمنح المشاهد استعداداً داخلياً للدخول في عالم الحلقة.إنه صوتٌ يملك شَخصيّة، ويعرف تماماً أين يضع الوقفة، وأين يجعل الجملة تنتهي وهي ما تزال حيّة في ذهن المتلقي.

*نجاح البرنامج لم يكن ممكناً لولا حضور معدّه ومقدمه، الدكتور مجيد السامرائي، بعقله الأكاديمي، ومرونته في الحوار، وقدرته على استنطاق الضيف دون استعراض أو مجاملة.

السامرائي أدرك منذ البداية أن البرنامج الثقافي ليست قيمته في الضيف وحده، بل في طريقة طرح الأسئلة، في الاقتصاد بالعبارة، وفي منح الضيف مساحة تليق بتاريخه.أسلوبه الحواري يقوم على ثلاث ركائز:احترام المتلقي وعدم تبسيط الأفكار حدّ الإخلال.و إبراز الضيف من خلال أسئلة تصنع قيمة لا ضوضاء.و المزج بين ثقافة المحاور وحضور الإنسان.ولذلك اكتسب البرنامج نبرة أكاديمية من دون أن يفقد دفء الحديث.

*الاستوديو لم يكن مجرد مساحة تصوير، بل أحد أعمدة الهوية البصرية للبرنامج. تصميمه المتّزن، إضاءته المدروسة، وتوزيع عناصره أعطت إيحاءً ثقافياً رزيناً. أصبحت صورة الاستوديو جزءاً من ذاكرة العراقيين بصفتها “المسرح الذي تُقدَّم عليه الشخصيات المهمة”.

لقد كان استوديو (أطراف الحديث) حالة بصرية، مدرسة في بناء الجو الهادئ، والعمق اللوني، والمسافة النفسية بين الضيف والمكان، بحيث يشعر المشاهد أنه يدخل حواراً ناعماً لا ضجيج فيه.

*عندما تُذكر عائلة الأنصاري، يُذكر معها تاريخ طويل من الإبداع الإذاعي والبصري.

 من مهند الى علي إلى حسن  الأنصاري وصولاً إلى الجيل الذي ورث الفن كهوية لا مهنة.

وفي (أطراف الحديث) يقف حيدر الأنصاري خلف الكواليس، يمسك بالخيوط الثلاثة: التصوير، المونتاج، والإخراج.إنه ليس مخرجاً فحسب، بل مهندس التكامل. فهو الذي يصبّ الموسيقى، الصوت، الصورة، الحوار، الإضاءة، الإيقاع، كلها في قالب معرفي واحد. قدرته على أن يكون “جوقة كاملة” داخل عمل واحد كانت أحد أسرار هذا البرنامج. فهو لا يكتفي بنقل الحوار، بل يمنحه روحاً.

*خلف السطور والصور والأضواء، هناك فريق يعمل بصمت: فنيّو الإضاءة، مهندسو الصوت، مساعدو الإخراج، مسؤولو الديكور، والمصورون. أولئك الذين لا تذكرهم الشارة، لكن يظهر حضورهم في كل تفصيلة صغيرة. بدونهم لا يكتمل الهواء الذي يتنفسه البرنامج.

خلاصة القول… لماذا استمر أطراف الحديث؟

لأنه بُني على قواعد صلبة:اسمٌ ذكي ،شارة موسيقية خالدة،صوتٌ مميز،معدّ ومقدم يملك حضوراً فكرياً ،استوديو يترك أثراً بصرياً ،ومخرج يمزج كل العناصر ليخلق برنامجاً ثقافياً عصياً على النسيان.هذه المجموعة من العوامل صنعت برنامجاً يمتلك هوية وليس مجرد مواسم. ولهذا بقي أطراف الحديث حياً في ذاكرة العراقيين، شاهداً على أن البرامج الثقافية حين تُصنع بإخلاص وحب وفن، تستطيع أن تعيش عقدين… وربما أكثر.


مشاهدات 70
الكاتب حامد رويد
أضيف 2025/12/01 - 5:34 PM
آخر تحديث 2025/12/02 - 4:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 151 الشهر 939 الكلي 12784844
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير