الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حسن البحار ورواية «بحر أزرق… قمر أبيض»


الورقة النقدية لجلسة احتفاء" أتحاد ادباء بابل"

حسن البحار ورواية «بحر أزرق… قمر أبيض»

حمدي العطار

 

المقدمة

في كل احتفاء إبداعي نستعيد فيه أسماء أثرت المكتبة العربية، يبرز الروائي حسن البحار بوصفه أحد الأصوات التي أعادت للبحر مكانته في السرد، وقدم من خلال تجربته الروائية خصوصية فنية تمزج بين أدب الرحلات وأدب البحر في توليفة نادرة وعميقة الجذور.

إن الحديث عن رواية «بحر أزرق… قمر أبيض» هو حديث عن تجربة سردية تتجاوز حدود المكان لتجعل من البحر فضاء إنسانيا مفتوحا، ولتجعل من الرحلة وسيلة للتأمل، والبحث عن الهوية، وفهم العالم.

تأتي هذه الدراسة لتكون محورا لجلسة الاحتفاء بالروائي حسن البحار، وإضاءة على ملامح منجزه الروائي وما يحمله من قيم فنية وجمالية.

*المشتركات السردية في أعمال حسن البحار

ليس من المألوف أن يجتمع أدب الرحلات مع أدب البحر داخل رواية واحدة، فلكل منهما فضاؤه وتقنياته وطقوسه السردية. البحر بعواصفه وغضبه وأسراره لا يعرفه إلا أبناؤه؛ والرحلة بما تحمله من اكتشافات وتأملات وأسئلة تكتب عادة من منظور المسافر العابر.

ومع ذلك، استطاع حسن البحار أن يجمع بينهما، كما فعل كبار الأدباء الذين قدموا للبحر حضوره الرمزي مثل إرنست همنغواي في «الشيخ والبحر»، وكما فعل من العرب الروائي حنا مينا في «الشراع والعاصفة» و«حكاية بحار».

وفي التراث العربي، عرفنا نماذج تمتزج فيها الرحلة بالبحر مثل السندباد البحري، ورحلات البيروتي إلى الهند، ورحلة السيرافي في المحيط الهندي. وعلى المستوى الحديث، قدمت «الريحانيات» لأمين الريحاني، و«رحلة السندباد العصري» لحسين فوزي، و«زهرة العمر» لتوفيق الحكيم وغيرها من الأعمال نماذج مشابهة، مما يؤكد وجود جذور لهذا النوع من الكتابة التي يواصل البحار اليوم إثراءها.

*شخصيات من أدب البحر… تجربة سردية فريدة

في رواية «بحر أزرق… قمر أبيض» يقدم حسن البحار شخصيات تعيش البحر وتعمل فيه. يقدم لنا تفاصيل المهنة، والموانئ، والطقوس، وأشكال الحياة على ظهر السفن، ثم يضيف إلى ذلك البعد الرحلي عبر التعرف على عادات الشعوب وثقافاتها، ليخلق نصا متعدد الأصوات والمقامات.

ولذلك استحقت الرواية جائزة أدب الرحلات لعام 2013 في مسابقة الساعاتي.

*الشخصية المركزية في الرواية:

 هي شخصية «سي»، وهي شخصية رمزية تحاكي ما فعله كافكا في تسمية أبطاله بحرف واحد. من خلال «سي» نبحر إلى إندونيسيا وسنغافورة وسريلانكا وإيطاليا وبلجيكا وإنكلترا وجورجيا، ونعيش قلق البحار وأسئلته الفكرية والفلسفية.

ويمتلك البحار قدرة لافتة على نقل المشهد بصريا للقارئ، إذ تتحول المدن إلى لوحات نابضة بالحياة، مثل وصفه لسنغافورة:

 "جزيرة سعيدة مرحة… تنافس بزينتها الدنيا، بهية تنعم بالخيرات والسلام."

*النص الذاتي وتشكيل الشخصية

تتعدد الشخصيات في الرواية بين بحارين ونساء ومهاجرين وسكان مدن ساحلية، وتأتي كلها من زاوية نظر البطل «سي».

من أبرز الشخصيات:

ريتا البوذية: الأرملة الجميلة، معشوقة البحارين وملهمة البطل.

أنطوان: صاحب الدراجة النارية الذي يقود البطل في دوماي.

سوفيا البلجيكية: لقاء عابر يضيف بعدا إنسانيا جديدا.

العمة، لولو، هيلين: وجوه من الماضي يستعيدها البطل في لحظات التأمل.

يبرع البحار في رسم شخصياته، خصوصا الشخصيات النسائية، عبر وصف خارجي متقن، وحضور نفسي مؤثر. ولعل من أجمل النماذج وصفه لريتا:

 "امرأة من طراز آخر… لطيفة تتوغل في القلب على مهل تملكه، سمار قوامها المنتصب في ثوبها الأبيض…"

ولا يغيب عن الرواية الحوار حول الهويات والتعايش، كما في حوار «سي» وأنطوان:

 "من المستحيل التعايش بسلام إذا لم نحترم بعضنا، فالخير لا يأتي إلا إذا كانت نفوس الجميع مسالمة."

*بين الواقعي والخيالي… سر نجاح السرد

يمتلك حسن البحار قدرة على تحويل الرحلة الواقعية إلى مادة سردية ذات بعد روائي، حيث تتنفس الشخصيات عبر التخييل، بينما تبقى الحقائق الجغرافية والتاريخية جزءا من نسيج النص.

وعبر الانتقالات بين المدن — من دوماي إلى سنغافورة، ثم سريلانكا، وجنوى الإيطالية، وبلجيكا، وإنكلترا، وتركيا، وصولا إلى جورجيا — يظل البطل يعيش صراع الغياب والحضور، خصوصا في علاقته العميقة بـ ريتا.

تبدو الرواية في بعض لحظاتها كما لو أنها رحلة نفسية قبل أن تكون رحلة بحرية، رحلة بحث عن الذات، وعن معنى الانتماء، وعن الحب العابر حدود القارات.

وفي النهاية، تنتهي الرحلة بقرار البطل العودة إلى ريتا، لا عن طريق البحر هذه المرة، بل جواً، ليكتمل قوس الرحلة العاطفية.

الخاتمة

يقدم حسن البحار في «بحر أزرق… قمر أبيض» عملا ناضجا يجمع بين تقنيات السرد الروائي وعمق أدب الرحلات وأجواء أدب البحر، ويصنع من ذلك كله نصا ثربا يصعب فصل واقعيه عن خياله.

إن الشخصيات، المدن، الأمكنة، الأمواج، والذكريات، تتقاطع وتتداخل لتشكل نسيجا روائيا فريدا يكشف عن قدرة البحار على توظيف خبرته الحياتية في بناء سرد متماسك وممتع.

إن نجاح الرواية يكمن في قدرتها على جعل القارئ يعيش الرحلة بكامل تفاصيلها، ويتأمل العالم من خلال عيني بحار يكتب الحكاية ويروي ذاته في الوقت نفسه.

وبهذا، يستحق الروائي حسن البحار مكانته في المشهد السردي العربي، بوصفه أحد أبرز من أعادوا للبحر حضوره الروائي، وأعادوا للرحلة روحها الإنسانية والفن.


مشاهدات 28
الكاتب حمدي العطار
أضيف 2025/11/23 - 4:34 PM
آخر تحديث 2025/11/24 - 2:02 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 71 الشهر 17206 الكلي 12678709
الوقت الآن
الإثنين 2025/11/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير