مرافئ التكوين الأدبي
محمد علي محيي الدين
يولد الأديب كما يولد الطفل، لا يملك من أدوات الفن إلا الموهبة الغضة، والدهشة الأولى أمام اللغة، وما تفعله الكلمات في النفس من سحرٍ ورجفة. غير أن الموهبة وحدها لا تكفي، فهي كالبذرة لا تثمر ما لم تسقها القراءة، وتظللها الصبر، وتُربّى في مناخٍ من التشويق والمحبة.
إن القراءة، في بداياتها، ليست متعة خالصة بل جهادٌ للنفس، تمرينٌ على الإصغاء وتذوق الفكرة، حتى إذا ألفت العين الحرف، وآنست الروح المعنى، انقلب الجهد لذةً، وغدت القراءة إدمانًا جميلاً يفتح للناشئ أبواب الأدب الرحبة.
ومن الخير للمتأدب أن يبدأ قراءاته في ظلال الأدباء المعاصرين، أولئك الذين يكتبون بلسان عصره، ويعالجون قضاياه، فيجد فيهم صدى همومه وأسئلته، فيتحرك وجدانه وتتفتح مواهبه. أما مطالعة الكتب القديمة والآثار البعيدة زمنًا، وإن كانت أصفى أسلوبًا وأبلغ سبكًا، فالأجدر أن تُؤجل حتى يُشتدّ عوده الأدبي، وتترسخ لديه أصول الفن ومقاييس الجمال، فيكون أقدر على تذوقها وتمييز دررها من ركامها.
فالناشئ إذا أُخذ في مطلع الطريق بنتاج عصور مضت، بلُغاتها البعيدة، ومقاصدها التي لم يعد لها صدى في واقعه، أصابه الملل، وتنكّر للأدب قبل أن يحبه. لذلك، ليكن تعليمه الأدب على مراحل، تبدأ بلغة الحياة اليومية، وتنتقل شيئًا فشيئًا إلى مراتب البلاغة العليا.
ومن الخطأ أن نحمّله منذ البدء عبء الأساليب المزخرفة والعبارات المنمقة التي تعتمد قيمتها على البديع والمحسنات اللفظية، فذلك يفسد الفطرة الأدبية، ويحوّل الناشئ إلى أديبٍ لفظيٍّ فارغٍ من المعنى، تهمّه الزخرفة أكثر مما يعنيه الجوهر. إن التربية الأدبية الصحيحة تبدأ من الاهتمام بصفاء الفكرة وصدقها، ثم بسلامة التعبير عنها، لأن الأدب الحق هو الذي يطابق الفكر بالحياة، ويعبر عن جوهر الإنسان لا عن ألوان اللفظ.
ولهذا، يُستحسن أن يُجنّب المبتدئ في مطالعته الكتب التي لا تحمل موضوعًا اجتماعيًا أو فكريًا أو إنسانيًا، أو تلك التي تُغرق في الخيال والافتعال، فتميل به عن الواقعية والصدق. لكن في الوقت ذاته، يجب ألا ننسى أن الأدب ليس علمًا جامدًا، بل هو فنّ، وأننا نُعدّ أديبًا لا عالمًا. ومن ثمّ ينبغي أن نترك لخياله فسحة من الحرية، وأن نشجعه على شيء من الغلوّ والتصوير، فبهذا يمتاز الأديب عن العالم، وتكتسب كتابته نكهتها الخاصة التي تُؤثر في النفس وتُحركها.
إن الارتقاء في السلم الأدبي لا يتم قفزًا، بل درجاتٍ متصاعدة. في النثر، يمكن أن يبدأ الناشئ بالمنفلوطي وطه حسين وزكي مبارك، فأساليبهم واضحة، تجمع بين العاطفة والعقل، وبين البيان والصدق. وفي الشعر، لعلّ البدء بأساليب الحبوبي وصفّي الدين الحلي يهيئ الذائقة للإيقاع العربي الأصيل، ثم تأتي مرحلة أحمد شوقي وشعراء المهجر، وما استجد في الشعر الحديث من أساليب خرجت عن الانماط المتقدمة، فيجد الناشئ عندهم طريق التجديد والرهافة والتأمل.فإذا بلغ القارئ مرحلة العشق للأدب، وأحبّ تلك الأساليب، انطلق منها إلى الأفق الأوسع، إلى فحول الكتاب والشعراء، حيث يُصبح قادراً على التذوق والنقد والابتكار، لا على المحاكاة وحدها.
وليس القصد هنا أن نرسم سلّمًا ثابتًا لكل من يتأدب، فلكل عقلٍ طريقه، ولكل روحٍ إيقاعها، ولكن القصد أن نُنبّه إلى أهمية التدرّج، وأن يختار للناشئ ما ينهض به في كل مرحلة، ويجنّبه ما يثقله أو يجرّه إلى التعثر، حتى يبلغ ذروة الأدب بقدمه لا على أكتاف غيره.فالأدب، في جوهره، ليس ترفًا من الكلام، بل رياضةٌ للعقل والروح، تربيةٌ للذوق، وتطهيرٌ للنفس من غلظ الواقع. ومن أحسن تنشئة الأديب، فقد أسهم في تهذيب الإنسان نفسه، وصنع من اللغة مرآةً للوجدان الإنساني في أصفى صوره.