هل بات التدخّل الإسرائيلي في السودان إحتمالاً واقعياً ؟
ابراهيم برسي
في المشهد الذي تتقاطع فيه الخرائط العسكرية مع سرديات الخوف القديمة، يطل السؤال الآن من بين دخان الحرب السودانية: “هل يمكن أن تتدخل إسرائيل عسكريًا في السودان؟”…
ليس كسيناريو خيالي أو استدعاء لماضٍ من الضربات الجوية، بل كاحتمال واقعي في زمنٍ تتحرك فيه الدول على وقع الطائرات المسيّرة، والبحار التي صارت مسارح مفتوحة للمصالح.
في الخامس من نوفمبر 2025، نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” مقالًا بقلم الصحفية ناتاليا كوادروس، المتخصصة في الشؤون الإفريقية، قالت فيه إن السودان “لم يعد شأنًا داخليًا”، وإنّ عبد الفتاح البرهان، بتحالفه مع إيران وجماعة الإخوان وحزب الله، “حوّل بلاده إلى جبهة جديدة ضد إسرائيل”.
لم يكن هذا المقال حدثًا عابرًا في الإعلام الإسرائيلي، بل مؤشّرًا على تصاعد القلق من أن تتحول الحرب السودانية إلى تهديد مباشر للأمن الإسرائيلي، خاصة في البحر الأحمر.
الكاتبة لم تكتفِ بالتحذير، بل دعت إلى “إزالة البرهان من السلطة” بوصفها “الخطوة الأولى نحو استعادة السلام والشراكة المستقبلية مع إسرائيل”، وحثّت تل أبيب على “التحرك الآن لتعزيز دورياتها البحرية وقطع شريان الحياة عن سلطة الجيش”.
تلك اللغة، التي لا تشبه اللغة الدبلوماسية المعتادة، تفتح الباب على سؤال جوهري: هل يعكس هذا المقال موقفًا رسميًا إسرائيليًا أم هو مجرّد حملة ضغط إعلامي تمهّد لخيارات أكثر حدة؟
لا بيان رسمي
من الواضح أنّ المقال لم يصدر عن مسؤول حكومي، بل عن صحفية في قسم الرأي، مما يعني أنه لا يمثل بيانًا رسميًا للدولة. لكن في إسرائيل، كما في معظم الديمقراطيات، كثيرًا ما تسبق المقالات السياسية الموجّهة أيّ تحوّل في الموقف الرسمي. المقال، إذن، قد لا يكون إعلانًا للحرب، لكنه بالتأكيد نذرٌ مبكرٌ لمرحلة جديدة من التوتر بين تل أبيب وبورتسودان.
إسرائيل تنظر إلى السودان من زاوية جغرافية واستراتيجية قبل كل شيء. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، كانت الأراضي السودانية - تحت حكم البشير - ممرًا للأسلحة الإيرانية المتجهة إلى غزة، وقد نفذت إسرائيل بالفعل عدة ضربات جوية داخل السودان في تلك الفترة، استهدفت قوافل يُعتقد أنها كانت تحمل أسلحة إلى حركة حماس. لذلك، فإنّ عودة العلاقات بين الخرطوم وطهران في أكتوبر 2023 بعد قطيعة سبع سنوات، واستئناف الرحلات الجوية بين العاصمتين، وتزويد إيران للجيش السوداني بطائرات مُسيّرة من طراز “مهاجر-6” و”أبابيل”، كل ذلك يعيد إلى الأذهان الذاكرة الأمنية الإسرائيلية القديمة: السودان كمنصة خلفية لإيران.
هذا القلق ازداد مع تقارير تحدّثت عن مفاوضات لإقامة قاعدة بحرية إيرانية في بورتسودان. البحر الأحمر، بالنسبة لإسرائيل، ليس مجرد ممرٍ تجاري بل شريان حياة يصل ميناء إيلات بالعالم. وجود إيران أو حلفائها على ضفته الغربية يعني، ببساطة، إمكانية خنق إسرائيل في اي لحظة توتر. لهذا، حين دعت كوادروس إلى “دوريات بحرية إسرائيلية في البحر الأحمر”، كانت تتحدث بلسان القلق الإستراتيجي الإسرائيلي لا بلسان المبالغة الصحفية.
لكن رغم هذا القلق، يظلّ التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر في السودان احتمالًا ضعيفًا في الوقت الراهن. فتل أبيب، المنخرطة في حرب مفتوحة مع حماس، والمشتبكة سياسيًا وأمنيًا مع إيران في أكثر من ساحة، تدرك أن فتح جبهة جديدة في إفريقيا سيكون مكلفًا وغير مضمون النتائج. السودان بلد واسع، مضطرب، متشابك القبائل والمصالح، والتدخل فيه لن يكون كضربة محدودة على شاحنة أسلحة كما حدث في 2012، بل مغامرة كاملة في بيئة غير مستقرة قد تُستغل ضدها دعائيًا في العالم العربي والإفريقي.ومع ذلك، لا يمكن استبعاد تدخلٍ غير مباشر… إسرائيل تجيد العمل عبر الوكلاء، أو عبر الضربات النوعية المحدودة التي لا تُعلن رسميًا. من المرجّح أن تكتفي، في حال تطور النفوذ الإيراني في بورتسودان، بعمليات استخباراتية أو إلكترونية تستهدف تعطيل خطوط الإمداد أو مراقبة التحركات البحرية والجوية. وقد تُنسّق تلك التحركات مع الولايات المتحدة أو بعض الدول التي تشترك معها في القلق من تمدد طهران في البحر الأحمر.
أما الولايات المتحدة، فموقفها أكثر تعقيدًا. فهي، من جهة، لا تريد سقوط السودان في يد محور إيران - روسيا، لكنها، من جهة أخرى، لا تملك الإرادة أو الرغبة في تدخل عسكري مباشر. واشنطن تفضل أدوات الضغط السياسي والاقتصادي، والعقوبات الموجهة، والدفع نحو الحلول التفاوضية. لذلك، أي تحرك إسرائيلي محتمل في السودان لن يكون إلا بموافقة ضمنية أميركية، أو على الأقل بغضّ طرف محسوب.
التحالف بين البرهان والتيار الإسلامي في السودان هو الورقة الأخرى التي تثير المخاوف الإسرائيلية. المقال وصف البرهان بأنه “وريث عمر البشير”، وأنه “صنيعة الإخوان”، وهذه ليست مجرد تهمة رمزية. فإسرائيل، التي تعتبر الإخوان الوجه الأيديولوجي لحماس، ترى في أيّ نظامٍ يتماهى معهم تهديدًا محتملًا لوجودها.
ومن هذه الزاوية، يصبح السودان في نظرها امتدادًا للفكر المعادي لإسرائيل أكثر من كونه خطرًا عسكريًا. لذلك، فإن حملة “جيروزاليم بوست” تأتي ضمن سردية أوسع تستعيد ما بعد الربيع العربي، حين اعتُبر صعود الإسلاميين خطرًا على الأمن الإقليمي، وتمت محاصرته بدعم من واشنطن وتل أبيب والعواصم الخليجية.
لكن هل البرهان فعلًا حليفٌ لإيران؟ أم أن هذا التحالف تكتيكي فرضته الحرب؟
الواقع أنّ البرهان، المحاصر سياسيًا والمعزول دوليًا، لم يجد سوى طهران تمد له اليد بالسلاح. الدعم الإيراني كان وسيلة للبقاء، لا إعلان ولاء أيديولوجي. ومع ذلك، من منظور إسرائيلي، النية لا تهم بقدر النتيجة: ما دام السلاح الإيراني يصل إلى السودان، فالأمر يُعدّ خطرًا استراتيجيًا، سواء أكان البرهان مؤمنًا بـ”ولاية الفقيه” أم لا.
في المقابل، تدرك إسرائيل أن السودان ليس كيانًا موحدًا بل ساحة لصراعات داخلية متشابكة. دعم البرهان من قبل الإسلاميين لا يعني أن كل الجيش السوداني يدين بالولاء لهم، كما أن الدعم السريع - رغم جرائمه المروعة - يلقى دعمًا من قوى إقليمية تخشى من سيطرة الإسلاميين على الخرطوم.
إسرائيل تدرك أن الصراع السوداني لم يعد محليًا، بل حلبة تنافس بين محاور: إيران وتركيا من جهة، والسعودية والإمارات ومصر من جهة أخرى، وكل محور له حساباته.
في هذا السياق، يأتي المقال كإشارة لإسرائيل وللغرب معًا: “إذا تركتم السودان لإيران، فسينقلب البحر الأحمر ضدكم”. إنها صيغة إنذار ناعمة تذكّر بأن الفراغ في السودان لن يملأه إلا الخصوم. لذلك يمكن اعتبار المقال جزءًا من حملة ضغط إعلامي منسّقة، لا على البرهان وحده، بل على واشنطن أيضًا، كي تتحرك لمنع ما تعتبره تل أبيب “تحول السودان إلى قاعدة إيرانية جديدة”.
حتى الآن، لا توجد أي مؤشرات على تحرك عسكري إسرائيلي فعلي. لا نشر للأساطيل، ولا تحركات بحرية غير معتادة في البحر الأحمر، ولا تصريحات من وزارة الدفاع. ما يحدث هو تهيئة نفسية للرأي العام الإسرائيلي لاحتمال استخدام القوة “عند الضرورة”. وتلك العبارة، في القاموس الإسرائيلي، قد تعني ضربة محددة تُنفى لاحقًا، أو عملية استخبارية يتم التلميح إليها دون إعلان.
اعادة بناء
إسرائيل تدرك أن السودان في حاله الراهن - حرب داخلية، مجاعة، انهيار مؤسسات - لا يحتاج إلى قصفٍ بقدر ما يحتاج إلى إعادة بناء. لكنها تخشى أن يتحول هذا الانهيار نفسه إلى بوابةٍ لنفوذ إيراني طويل الأمد، يهدد ليس فقط الملاحة في البحر الأحمر، بل منظومة التطبيع العربي برمتها.
من هنا، فإن التدخل العسكري الإسرائيلي، إن حدث مستقبلًا، لن يكون بدافع إنقاذ المدنيين أو دعم الديمقراطية، بل لحماية مصالحها في البحر الأحمر ولمنع إيران من تثبيت وجودها جنوبه. سيكون تدخلًا محدودًا، محسوبًا، يشبه “العمليات الجراحية” التي اشتهرت بها إسرائيل في عقود سابقة: سريعة، حاسمة، ثم صمت طويل.
لكن إلى أن تتبلور معالم الصراع بشكل أوضح، سيظلّ هذا التدخل أقرب إلى فكرة في غرف الأمن القومي منه إلى خطة على الطاولة. فإسرائيل، رغم قوتها التقنية والاستخباراتية، تدرك أن البحر الأحمر مزدحم بالأساطيل الأميركية والمصرية والسعودية، وأن أي تحرك غير منسق قد يشعل مواجهة أوسع لا تريدها الآن.
الخطر الحقيقي ليس في أن تُرسل إسرائيل صواريخها إلى السودان، بل في أن يستمر السودان في الانهيار حتى يصبح فضاءً مفتوحًا لكل من يريد استخدامه ضد الآخرين. وحينها لن تحتاج إسرائيل إلى إعلان حرب، لأن الحرب ستكون قد بدأت بالفعل… حرب غير مرئية، تُخاض بالوكالة، في مياهٍ يعرف الجميع أنها لم تعد محايدة.
في النهاية، يمكن القول إنّ إسرائيل، مثل غيرها من القوى الكبرى، تراقب السودان اليوم كمن يراقب نارًا تقترب من مخزن البارود. هي لا تريد إشعالها، لكنها أيضًا لا تثق في من يطفئها. أما السودان نفسه، فليس في حاجة إلى مزيد من الجبهات المفتوحة، بل إلى استعادة دولته قبل أن يتحول بالكامل إلى ساحة لتصفية حسابات الآخرين.
وفي ضوء ما نُشر وما يُتداول في الأوساط الإسرائيلية والأميركية، يبدو أن إسرائيل لن تتدخل عسكريًا في السودان الآن، لكنها لن تتردد في ذلك إذا شعرت بأنّ النفوذ الإيراني تجاوز خطوطها الحمراء في البحر الأحمر. وحتى يحدث ذلك، ستواصل أدواتها التقليدية: المراقبة، التنسيق مع الحلفاء، والانتظار… انتظار اللحظة التي يصبح فيها الصمت نفسه فعلًا من أفعال الحرب.