الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
خلف الحدود

بواسطة azzaman

خلف الحدود

محمد زكي ابراهيم

 

كانت محاولات التتريك التي اعتمدتها إمبراطورية بني عثمان واحدة من هجمات كثيرة تعرض لها العرب على مر القرون، لكن أياً منها لم يصادف النجاح، ذلك أن حرص العرب على هويتهم الذاتية كان أقوى مما تصور هؤلاء، ولم يعن لديهم الخضوع إلى إمبراطورية ما التحول إلى ملة أخرى، حتى لو كانت ذات حول وطول. لقد كان عنصر الممانعة قوياً، لدرجة قطعت الطريق على محاولات من هذا النوع.

وهذا هو ما حدث بالفعل في أكثر من مرة وفي أكثر من مكان، ولم يكن الاستعمار هو السبب الوحيد للتراجع، وإن بدا ذلك واضحاً للعيان. ذات مرة قال (مالك بن نبي) أن ما يمتلكه الاستعمار من نفوذ ليس هو السبب الوحيد في وقوع البلاد الإسلامية تحت الهيمنة الأجنبية، وليس هو علة ما ألفت نفسها فيه من تخلف، بل لأن ثمة ظاهرة اسمها القابلية للاستعمار،  جعلتها تنقاد بسهولة إلى ما يريده الآخرون

لكن البقاء خلف الحدود ليس هو المطلوب دائماً، بل هو في كثير من الأحيان عامل ضعف، وتفكك، وقلة حيلة، فالانفتاح على الغير، هو أحد أهم وسائل القوة والانتشار، والخروج إلى الفضاء العالمي، هو أفضل سلاح من أسلحة البقاء والذيوع، وهناك على الدوام ما هو أهم من العيش وراء حدود مغلقة، وأكثر إلحاحاً من الانزواء في وطن خاص.

لقد خرج البريطانيون إلى العالم عبر مسرح شكسبير، الذي لم يتوقف يوماً طيلة 400 عام، وكان هذا الخروج إيذاناً بنشوء إمبراطورية كبرى، وقدمت السينما الأميركية النموذج الأميركي إلى كل بلدان المعمورة، زارعة في أذهانهم  نزعة التفوق والاقتدار لدى شعوب القارة الجديدة، حتى بات الوصول إليها حلماً من أحلام الملايين في كل مكان.  إن الأمثلة كثيرة ومتشعبة، لكن ما يهمنا هنا أن ندرك أن جزءً أساسياً من قوة الشعوب، يرجع إلى إرثها الفني، وأن المحافظة عليه وتطويره والإضافة إليه، وتقديمه إلى العالم، مهمة قومية لا يسعها التفريط بها أبداً، بل إن الفنون التشكيلية والبصرية هي التي تشكل الشخصية الوطنية، وهي التي تلون الذائقة الشعبية، وتبلور الحس الجمالي، وتمنحها الإحساس بالزهو والفخر، وتجعلها محط أنظار الشعوب الأخرى.

وهي ليست ترفاً أو سلعة كمالية، يمكن التغاضي عنها، أو تأجيل النظر فيها، بل هي إحدى أهم موارد الثقافة والاقتصاد، والسياسة والاجتماع، في أي بلد من البلدان.

والسينما المصرية التي ازدهرت طوال القرن الماضي دليل ناصع على هذا الاستنتاج، ويكفي أنها كانت صناعة رائجة طالتها يد التأميم مثل بقية القطاعات التجارية الأخرى في الستينات! وكانت وراء انتعاش سوق الأدب والرواية والإعلام طيلة تلك الحقبة، حتى أن روائياً بحجم إحسان عبد القدوس قدم (60) رواية من رواياته، تحولت إلى روافد  لهذا الفن الجميل! ولا أظن أن أديباً تهيأت له مثل هذه الفرصة باستثناء أغاثا كريستي البريطانية.

لقد بات الدور على العرب الآن أن يعملوا بهذا الاتجاه في كل بلد من بلدانهم، وأن يشرعوا في بناء نهضة مسرحية وسينمائية ودرامية، نابعة من أرضهم. ، وأن تجند لها كل الإمكانات المادية والأدبية، لأنها هي دون غيرها من سيتولى التعريف بهم إلى شعوب العالم.

ليست صناعة الفن باهظة التكاليف قطعاً، لكن مردوداتها لا تقدر بثمن. ، ذلك أنها إحدى أهم وسائل الوحدة الوطنية في البلدان التي تواجه الانقسام مثل العراق، وليس ثمة سلاح في هذا العالم يمكن أن يفوق الوحدة في مواجهة المشاكل والأخطار والأزمات الكبيرة.


مشاهدات 26
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/11/08 - 12:13 AM
آخر تحديث 2025/11/08 - 12:51 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 80 الشهر 5112 الكلي 12366615
الوقت الآن
السبت 2025/11/8 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير