تحرير المدرسة
قيس الدباغ
أنا والذكريات في مصارعة دائمة. في “نهر جاسم”، في شهر شباط من عام 1987، أُقحِمنا في معركة تنطبق عليها مقولة “هَدَّة عشائر” انطباقًا تامًا.
بدأ الهجوم بعد شروق الشمس بأقل من نصف ساعة. ورغم تحذيراتنا المسبقة بأن نهاية الشارع المبلط توجد فيه فتحة علينا الحذر منها لأنها تؤدي إلى موقع العدو، وأن علينا بمجرد وصولنا إلى الفتحة أن نستدير بزاوية 90 درجة ونترجل وننتشر بتشكيل فوج، وأن نسيطر على الساتر بعد عبورنا قناة ري متوسطة، حيث توجد هناك “غرفة حركات” مقر لواء كانت قد سقطت بأيدي العدو.
وبعدها بـ 120 متراً تقع بناية لمدرسة ابتدائية ريفية، وكانت المهمة الموكلة إلى فوجنا هي تحريرها. ولك أن تتخيل مدرسة ريفية صغيرة في منطقة زراعية.. كالعادة، تبعثر الجنود بين السواتر وقناة الري بعشوائية. فالمهمة الوحيدة في ذهن الجندي المهاجم هي الابتعاد عن نيران العدو الكثيفة، مما كان يؤدي به إلى الانحراف إلى مناطق تبعد قليلاً عن الهدف. وبقدرة قادر، وتيسير من الله وستره، تمكّنا من الوصول وتحرير “غرفة حركات” مقر اللواء. ثم انتشرت سرايا الفوج وفصائله التي تلتنا تباعاً بعد أن خفّت النيران المعادية.
انسحب العدو إلى مسافة تتراوح بين 200 إلى 300 متر، وإلى ساتر كان قد أعده مسبقاً وهو أعلى من جميع مواضعنا الدفاعية، فأصبح فوجنا تحت مطرقة نيران الهاون والقناصة. حتى إننا كنا نسمع صوت الأذان فجراً عندما يحين موعد الصلاة. “الله وأجبر، الله وأجبر” هي الكلمات التي كنا نسمعها.
وكانت الأوامر المتلاحقة تأتينا من مقر الفرقة واللواء: “احتلوا المدرسة! لماذا لم يتم احتلال المدرسة حتى الآن؟”. والمصيبة أن جوابنا كان: “أية مدرسة؟ لم نرَ أو نلمس أي بناية تدل على مدرسة!”. ولكن قيادة الفرقة كانت تتهمنا بالكذب والجبن والتخاذل، وأننا سنُعدم إذا لم نحتلّ المدرسة.
في النهاية، جرى الاتفاق على إرسال فصيل من سرية الاستطلاع العميق التابعة لفرقتنا لغرض التثبت من صحة ادعائنا. وعن طريق جهاز “الراكال” (اللاسلكي) تم إبلاغنا أن فصيل الاستطلاع العميق سيتسلل إلينا في هذه الليلة، وأن علينا تسهيل مروره واستقباله.
بعد الساعة الثانية ليلاً، أبلغنا جنود الحراسات أن هناك “أشباحاً” خلف الفوج. قلنا لهم: “هؤلاء من فصيل الاستطلاع التابع لفرقتنا”. وصل ضابط ملازم برفقة 3 جنود. كانت ملابسهم جميعاً نظيفة ومكوية، وكانوا يحملون قنابل يدوية ومسدسات ورشاشات “نصف إخمص” ، إضافة إلى سكين كبيرة في غمد جلدي مزركش وعريض يتدلى على الجهة اليسرى من الساق.. وصلوا إلينا وهم مرعوبون يرتجفون من الخوف. وكان أول طلب قدّمه ضابطهم هو تخصيص مجموعة من الجنود لمساعدتهم في إخلاء جثث ثلاثة شهداء استشهدوا أثناء محاولتهم الوصول إلينا. وصُدم هؤلاء من المنظر المزري لجنودنا، من لحاهم الطويلة وملابسهم المتسخة، وآثار الجوع البادية على جميع أفراد مقر الفوج. حتى أن علب السجائر التي معهم فرغت تماماً بعد أن وزعوها على الجنود.. وبعد تردد، قال الضابط: “أريد مجموعة ترافقني لغرض معاينة المدرسة”. فخرج آمر الفوج مُكرَهاً مع حمايته للبحث عن المدرسة الضائعة. وبعد أقل من ربع ساعة، عاد الجميع يحملون أحد أفراد حماية آمر الفوج الذي استشهد برصاص قناص. وكان الجميع يسبون ويشتمون قائد الفرقة الذي أُقحِموا في هذه المهمة بسببه. قال الضابط، مع الأسف الشديد، وهو يتحدث عبر جهاز “الراكال” مع رئيس أركان الفرقة: “سيدي، المدرسة الآن تحت أقدام جنود السرية الأولى، ولم يتبقَّ منها إلا دعامة خرسانية واحدة فلقد دُمّرت المدرسة تماماً بسبب القصف المدفعي وقصف الطائرات، ولا تكاد تُرى حتى في وضح النهار. بينما قيادة الفرقة لا تراها إلا شاخصة على الخرائط العسكرية الورقية!”. كان توفير الطعام والماء شبه مستحيل، لأن العدو كان يسيطر على كل شيء. وبعد أيام، وافقت القيادة العامة في بغداد على سحب فوجنا من هذا الجيب المهلك (الموضع المحاصر) الذي أُقحِمنا فيه. دخلنا المعركة بعدد 169 مقاتلاً، وخرجنا منها بـ 73 مقاتلاً فقط، بما فيهم المخابروْن