الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين إحتكر الدين الأخلاق

بواسطة azzaman

حين إحتكر الدين الأخلاق

فاروق الدباغ

 

في مجتمعاتنا العربية لم نتعامل مع Ethics(الأخلاق) كمبحث معرفي مستقل، بل ربطناه دائمًا بـ Religion(الدين)، سواء أكان الإسلام أو غيره من الديانات. فكل ما يُدرَّس منذ الطفولة حتى الجامعة يُقدَّم على أن الأخلاق مشتقة من الأحكام الدينية، حتى أصبحنا نعيش تناقضًا بين ما نقول وما نمارس. فعندما نربي الأطفال على القيم، نقفز بلا وعي من المفهوم الأخلاقي إلى الحكم الديني، فنخلط بين Morality(السلوك الأخلاقي) Faith (الإيمان)، وبين القيم والممارسات اليومية.

لقد أكملت دراستي في الشرق الأوسط، في العراق وفي دولة عربية أخرى، ولم أدرس يومًا مادةالأخلاق” كمبحث منهجي مستقل. لم أتعرف على Ethical Decision-Making Process (عملية صنع القرار الأخلاقي) إلا بعد أن بدأت دراستي في الجامعات الأوروبية، وهناك أدركت أننا نعاني من Cognitive Distortion (تشوه معرفي) في فهمنا للأخلاق، لأنها لم تُقدَّم لنا كعلمٍ نقديٍ قائمٍ على التفكير والتحليل، بل كملحق ديني أو اجتماعي.

تجلّى هذا الوعي أكثر عندما أوكلتني وزارة الهجرة السويدية بتدريب أساتذة مادة Samhällsorientering(التوجيه المجتمعي) الخاصة بالمهاجرين، وكان من ضمنها فصل بعنوان Etik och Moral(الأخلاق والسلوك). لاحظت أن أغلب الأساتذة من خلفيات عربية وشرق أوسطية كانوا يستهينون بالمادة ويقولون: “نحن تربّينا على الأخلاق ونعرفها أكثر من أسمائنا”. لكنهم كانوا يقفون حائرين عندما أطرح سؤالًا بسيطًا عن التناقض في عبارة “The End Justifies the Means” (الغاية تبرر الوسيلة)، وأطلب منهم تقديم مثال يدعم موقفًا أخلاقيًا دون أن يستند إلى الحلال والحرام. في الغالب كانوا ينهون النقاش بجملةلا يجوز”، وكأن التفكير العقلي ينتهي عند حدود النص.

إنّ الدين يمنحنا أحكامًا عامة مثل: لا تقتل، لا تكذب، لا تسرق، لا تغش، لا ترتشِ. لكنه لا يزوّد الإنسان بالمنهج العقلي لاتخاذ القرار الأخلاقي عندما تتعارض القيم. فالدين لا يعلّمك كيف تفكر أخلاقيًا، بل يوجّهك نحو النتيجة فقط. خذ مثلًا الطبيب الذي يعلم أن مريضه يحتضر: هل يقول له الحقيقة احترامًا لمبدأ Honesty (الصدق)، أم يخفيها حفاظًا على أمله في الحياة؟ هنا لا تكفي النصوص، بل يحتاج الطبيب إلى منطقٍ أخلاقيٍ متزنٍ يوازن بين Intention (النيةConsequence ( (النتيجة) ) Dutyالواجب).

عندما يغيب هذا التفكير النقدي، يلجأ الإنسان إلى Social Norms(الأعراف الاجتماعية) أو إلى Religious Authority(السلطة الدينية) التي تكرر النصوص دون أدوات بحث أو معرفة علمية أو إحصائية. فينتهي النقاش بالتحريم أو الإباحة، دون أي جهد في بناء Ethical Argumentation(الحجة الأخلاقية) القائمة على السبب والدليل والمنطق.

هذه المعضلة تظهر بوضوح في سلوك المهاجر العربي في أوروبا، الذي يأتي محمّلًا بفكرة أن الغربمنحلّ أخلاقيًا”. أتذكر سنة2010  في اول زيارة لبلدي العراق بعد الهجرة وفي لقاء مع احد الاصدقاء وكان حينها استاذ في جامعة الموصل سألني : “كيف حافظت على عائلتك من التفسخ الأخلاقي في السويد؟” وكان ينتظر مني أن أهاجم المجتمع الغربي، لكن الحقيقة أن الخلل فينا نحن، لا فيهم. فالكثير من المهاجرين، حين يعجزون عن تعلم اللغة أو الحصول على عمل، يسمحون لأنفسهم بالتحايل على قانون Social Welfare System(نظام الرعاية الاجتماعية)، فيعمل أحدهم Off the Books(بالسود) دون تصريح، ويأخذ في الوقت ذاته دعمًا من البلدية، مبررًا ذلك بالحاجة. وآخر يطلّق زوجته رسميًا أمام القضاء الأوروبي ليحصل على سكنين منفصلين، ثم يعيش معها بالسر ويؤجّر إحدى الشقق خفية. جميع هذه الممارسات تبرَّر دينيًا واجتماعيًا كنوع منالذكاء”، بينما هي في جوهرها خيانة للأمانة الأخلاقية التي يقوم عليها Civil Society(المجتمع المدني). وتظهر المفارقة الأخلاقية نفسها في العراق بصورة أكثر قسوة. فبينما ترفع المنابر شعار تكريم المرأة  والرحمة بالطفل، ما زال  Domestic Violence(العنف الأسري)) ËChild Abuse  إساءة معاملة الأطفال) واقعًا يوميًا تُبرّره الأعراف والدين معًا. فالأب الذي يضرب ابنه حتى يفقد الوعي يبرّر فعله بـ (التربية)، والزوج الذي يعتدي على زوجته يقول (الشرع حلّ لي التأديب). هنا تنقلب الأخلاق إلى أدوات تبرير للعنف، ويختفي جوهر Human Dignity(الكرامة الإنسانية) التي يفترض أن تكون الأساس لأي منظومة قيمية. هذا هو التناقض بين الفكرة الأخلاقية والسلوك الواقعي الذي يعمّق العنف الاجتماعي ويغذّي دائرة القهر جيلاً بعد جيل.

أما في المجال العام، فالقاضي الذي يحذّر من الفساد يستخدم أدوات الفساد نفسها لإقصاء خصمه، والمرشح الذي يدين شراء الذمم يشتري الولاءات ليصل إلى السلطة، والموظف الذي يلعن الرشوة صباحًا يدفعها مساءً لإنجاز معاملته. الجميع يتحدث عن Virtue(الفضيلة) ويصلّي بخشوع، لكنهم يتجاهلون أن الدين بلا Critical Moral Reasoning(تفكير أخلاقي نقدي) يتحول إلى غطاء للفساد لا إلى حاجزٍ ضده. في المقابل، بدأ الجيل الثالث من أبناء المهاجرين في أوروبا يدرك أن الأخلاق لا تُقاس بالتديّن، بل بالمسؤولية تجاه الذات والآخر. صاروا يميزون بين السلوك الشخصي الذي يخصّ الفرد، والسلوك الاجتماعي الذي يمسّ الآخرين. فأن يشرب شخص الكحول هذا شأنه، لكنه حين يقود السيارة تحت تأثيره يصبح فعله Unethical(غير أخلاقي) لأنه يهدد حياة الآخرين. أن يختار الفرد ملابسه حرية شخصية، لكن أن يضايق غيره بسبب مظهره سلوك غير أخلاقي يستحق العقوبة. بينما في العالم العربي يُدان الشخص بسبب مظهره أو معتقده، ويُكافأ الفاسد صاحب النفوذ باسم الدين والوجاهةمن هنا تبرز الحاجة لأن نعلّم الأجيال القادمة كيف يقدمون الحجة الأخلاقية (Ethical Argumentation) عند تبرير آرائهم، لأن غياب الحجة يؤدي دائمًا إلى Fanaticism(التعصب)، وبذلك نتخلص من ثقافة السائد هو الصحيح. فالحجة الأخلاقية يجب أن تتضمن Reason(السبب) ËEvidence (الدليل) ËEthical Principle (القاعدة الأخلاقية)، وتستند إلى Data(البيانات) ËStatistics (الإحصاءات) ËResearch Findings (النتائج البحثية). باختصار، علينا تدريب الأجيال القادمة على Critical Thinking (التفكير النقد)، لا على ما هو موروث ديني أو سياسي

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 203 الشهر 9734 الكلي 12149589
الوقت الآن
الأربعاء 2025/10/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير