مغزى مقاطعة خطاب نتنياهو
محمد علي الحيدري
لم يكن المشهد عابرًا حين اختار عدد غير قليل من قادة العالم مغادرة قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء خطاب بنيامين نتنياهو. ما جرى لم يكن مجرد حركة احتجاجية بروتوكولية، بل فعل سياسي له دلالاته العميقة، في لحظة تشهد فيها غزة واحدة من أعنف الحروب وأكثرها مأساوية في التاريخ المعاصر.إن مغادرة القاعة لم تكن تعبيرًا عن الرفض فحسب، بل عن رفض منح الخطاب الإسرائيلي شرعية الاستماع. فالمقاطعة، في هذا السياق، هي شكل من أشكال نزع الشرعية الدولية عن رواية باتت عاجزة عن إقناع العالم. فالقادة الذين خرجوا لم يقولوا شيئًا، لكنهم قالوا كل شيء: لا جدوى من تكرار سردية الإنكار بينما صور الدم والركام تملأ الشاشات.
قد يجادل البعض بأن مثل هذه الإيماءات الرمزية لا تغيّر ميزان القوى على الأرض. غير أن السياسة الدولية لا تُقاس بالفعل العسكري وحده، بل أيضًا بالرموز والإشارات التي تصنع الرأي العام وتؤثر في مسار الدبلوماسية. وإذا كانت إسرائيل قد اعتادت على حماية فيتو أو خطاب مضاد، فإنها اليوم تواجه فراغًا متزايدًا من حولها، يتجلى في الصمت الجماعي أكثر مما يتجلى في الكلمات. الأمم المتحدة لطالما وُصفت بالعجز أمام الصراعات الكبرى، لكن ما حدث يفتح نافذة على حقيقة جديدة: أن إسرائيل لم تعد قادرة على احتكار المظلومية أو فرض خطابها بلا منازع. والمقاطعة هنا لا تنهي حربًا، لكنها تضعف الغطاء السياسي والإعلامي الذي طالما استندت إليه الحكومات الإسرائيلية في تبرير أفعالها.
إن دلالة ما جرى لا تنحصر في اللحظة ذاتها، بل في ما تكشفه عن تحولات أوسع: تحوّل الرأي العام العالمي، وتزايد الضغوط على الحكومات الغربية، وتآكل الرواية التي بُنيت لعقود على الخوف والابتزاز التاريخي. وبذلك يصبح الخروج من القاعة رسالة سياسية بليغة: إن الاستماع ليس واجبًا، والتصفيق لم يعد خيارًا، والتواطؤ لم يعد مقبولًا.
لقد أراد نتنياهو أن يخاطب العالم، فإذا بالعالم يرد عليه بصمته.
وهذه بداية تغير لا ينبغي الاستهانة به.