جيل بلا أحلام
آلاء الصوفي
حين يصبح جمع العلب الفارغة هو الحياة لمن فقدها، ندرك أننا بلغنا حافة مؤلمة من الانهيار الصامت،في إحدى زوايا شوارع المدينة التائهة صادفت أمي أثناء تجوالها طفلًا صغيرًا لا يتجاوز عمره السابعة، يفتّش في سلال القمامة يبحث عن العلب، يحمل كيسًا أسودَ أكبر من حجمه، يتصبب عرقًا تحت شمس لا ترحم، بعينين خاليتين من الطفولة، وفي ذاكرته العديد من الصور لأماكن القمامة التي قد زارها دون رفض ولا تمرد، بل تسليمًا مرًا كأن لا شيء ينتظره سوى هذه الحياة المنهكة، مشهد كهذا لم يعد استثناءً، لقد صار عاديًا حد البلادة، لكن الحقيقة التي نغفل عنها، أن تكرار هذا المشهد يوميًا يعني أننا أمام جيل ينشأ دون أن يتذوق طعم الحلم.
نحن نعيش مفارقة قاسية في المدينة ذاتها وعلى الطرف الآخر منها يجلس شابٌ أنيق على كرسي مقهى عصري، يكتب على حسابه في مواقع التواصل منشورًا منمقًا «استيقظوا مبكرًا، اشربوا قهوتكم، فأنتم مليونيرات الغد»، وبينما تنهال عليه علامات الإعجاب يغفل المتابعون عن حقيقة أنه لا يملك حتى ثمن قهوته، وأنه اقتسم الفاتورة مع أصدقائه، إنه مثال لجيل عالق بين واقعية موجعة لا تمنحه حتى كسرة خبز، وأحلام مزيفة تباع له يوميًا تحت عناوين التحفيز السريع والنجاح دون جهد، جيل شاب لم يُعطَ فرصة كافية لتكوين ذاته، فاختار أن يقلد، أن يصنع محتوى فارغًا في ظاهره مبهج، وفي باطنه انكسار عميق، منهم من أنهى دراسته في «الطب أو المحاماة، أو الهندسة» لكنه بدلاً من أن يشق طريقه، نجده يلهث خلف منصة، يحاول أن يصنع لنفسه حضورًا عبر الضحك والتفاهة، يظن أنها طريق للنجاح، ويستند إلى عدد المتابعين كدليل على القيمة، فيما الحقيقة أنه يبتعد كل يوم عن ذاته، عن حلمه الحقيقي، عن جوهره .
الواقع المؤلم أن أبناءنا اليوم بلا أحلام واضحة، لأن البيت لم يعد يمنحهم الأمان والثقة والتخطيط، والمدرسة لم تعد ترشدهم نحو أهداف تُبنى وتُترسخ، المجتمع نفسه لا يصوغ لهم طريقًا، بل يفتح لهم بابًا واحدًا اسمه «الترند»، نعيش في زمن صار فيه الإعلام التقليدي متراجعًا، ليصعد مكانه مؤثرون يقدمون الوهم في قوالب جذابة، يبيعون النجاح على شكل فيديو مدته دقيقة، لا يعرضون فيه المعاناة أو الطريق أو ثمن التعب، بل فقط النتيجة المفبركة مثل المال، السيارة، السفر، هكذا تنشأ لدينا أجيال تعتقد أن الحياة سهلة حد السذاجة أو قاسية حد الهروب، بلا مسافة وسطى يتعلمون فيها النضال من أجل الهدف.فماذا نريد لهم إذًا، نريد جيلًا يحلم لا بأحلام خيالية بل بأحلام حقيقية واقعية، أحلام تبدأ من أن يكون له بيت آمن، تعليم جيد، وظيفة شريفة، طموح نبيل، أن يحلم بأن يكون معلمًا، نجارًا، طبيبًا، رسامًا، صاحب ورشة صغيرة، لكنه يؤمن بأن هذا الحلم له حقيقي وممكن التحقيق، وليس مجرد صورة بفلتر، نريد أن يرى أن النجاح لا يأتي في فيديو بل في خطوات ،في تعب، في مسار يُبنى بالحجارة الصلبة لا بالهتاف والضحك.
ويبقى السؤال المؤلم هل نسي المجتمع هؤلاء الأطفال؟ لأنهم يطاردون أوهامهم، أم لأنهم لم يقنعوا أنفسهم بأن جمع العلب الفارغة هو قدرهم الوحيد،والركض وراء الترند وصخب السوشيال ميديا واقع لابد منهُ ،من المسؤول عن قتل الحلم فيهم، الفقر ام قسوة المجتمع أم إعلام مضلل جرّدهم من الطموح وملأهم بالأوهام، وهل نحن فعلًا جيل بلا أحلام، أم أننا نعيش بأحلام خادعة تقتلنا كل يوم على جرعات بطيئة يوما بعد يوم ،ما لم نُجب عن هذا السؤال الآن؛ فإن جيلاً آخر سيتكوّن في صمت ،جيلٌ لا يصرخ، لا يحلم، لا ينتظر، فقط يفتّش في سلة الحياة عن بقايا قيمة.