الجيلاوي فنان متعدّد وجوه الإبداع وعاشق الحلة الأبدي
الإتقان لا يُقاس بمساحة الدور بل في عمقه
محمد علي محيي الدين
في حكاية مدينة تُشبه الأسطورة، يسير رجلٌ كما لو أنه خرج من رحم نهر الفرات، يحمل على كتفيه حقائب من التراث، ودفاتر من المسرح، ومخطوطات من الحنين... اسمه محسن فاضل عباس حسون الجيلاوي، لكنه في الذاكرة الجمعية لأهل الحلّة هو ببساطة: «محسن الجيلاوي»، رجلٌ إذا ابتسم نطقت الحروف، وإذا حزن تحدّث الحجر، وإذا وقف على خشبة المسرح زاحم النجوم في سمائها.
ولد عام 1956 في محلة الوردية بمدينة الحلة، ولم يكن خياره للفنّ لحظة نزوة أو ميل عابر، بل كان قدرًا منذ فجر صباه، يوم تفتحت عيونه على نكهة الطين الحليّ المجبول بالحكايات والمسرات. التحق بمعهد الفنون الجميلة في بغداد، وتخرج في قسم السينما للعام الدراسي 1979- 1980، ومنذ ذلك الحين بدأ يكتب فصله الطويل في سفر الجمال والإبداع، معلّمًا، وممثلاً، ومؤلفًا، ومخرجًا، وباحثًا، وصحفيًا، ومؤرخًا للتفاصيل الصغيرة التي تُبقي المدن حيّة في ذاكرة الزمن.
كان يعمل في التعليم، لكنه سرعان ما أصبح روح النشاط الفني في تربية بابل، مشرفًا ومسؤولاً عن شعبة الفنون المسرحية حتى تقاعده عام 2015.
وفي تلك السنوات، لم يكن الجيلاوي مجرّد موظف يؤدي واجباته؛ بل كان شريانًا نابضًا يغذّي الأجيال بمعنى الفن كقيمـــــــة، وكأداة لقول الحق والحفاظ على الذاكرة.
وحين رأى الناقد شوقي كريم ، الجيلاوي في مسلسل «أحلام السنين»، لم يكن يرى فنانًا يؤدّي دور التاجر الذي يحمل وجعًا دفينًا لعدم الإنجاب، بل كان يشاهد ذلك النوع النادر من الممثلين الذين «يُقصون أنفسهم ليعيش الدور». قال عنه: «همست لنفسي أن هذا الفنان لا يُمثّل، بل يغيب كي يحضر الدور فقط».
مساحة الدور
ولعل هذا ما ميّز الجيلاوي منذ بداياته، حيث تعامل مع كل مشهد كما لو أنه بطولة بحد ذاته، حتى لو لم يكن اسمه في صدارة العنوان. الإتقان عنده لا يُقاس بمساحة الدور، بل بعمقه، بقوة الحضور، وصدق الانفعال. هذه الفلسفة في الأداء منحته مكانة استثنائية بين أبناء جيله، وكان محل تقدير جمهور النقاد والمخرجين الذين لمسوا فيه قدرة مذهلة على التحوّل والتجسيد.
ولم يكتفِ الجيلاوي بأن يكون فنانًا على خشبة المسرح أو أمام عدسة الكاميرا، بل كان قلمه جزءًا آخر من روحه. كتب للمسرح، وكتب للصحف، وكتب للتاريخ المحلي، وكأنه يقاتل النسيان بالحبر. من مؤلفاته: «حلقات حليّة: أخبار وأرقام من أيام زمان»، و»الشعير وأحلام الحمير»، و»المسرح البابلي في الوقائع العراقية 1937 ــ 1946». كتبٌ تعكس عمق انشغاله بماضي الحلة الثقافي، ومحاولته توثيق ما تهاوى من الذاكرة الجمعية في زحمة التغيّرات.
أفلامه الوثائقية عن الحلة – مثل «عروسة الفرات» و»الحلة ماضيها وحاضرها» – كانت رسائل حب موجهة للمدينة التي يسكنها وتسكنه، المدينة التي يعدّ نفسه وصيًّا على طينها ومائها ولهجتها ومفردة «حبيّب» التي تخرج من فمه كما لو خُلقت من أجله.
لم يكن الجيلاوي فنانًا يعيش في برج عاجي، بل كان حاضرًا في تفاصيل المشهد الثقافي بكل جوانبه، عضواً فاعلاً في اتحادات الأدباء والفنانين والإذاعيين والصحفيين، ومؤسسًا لجمعيات تُعنى بإحياء تراث الحلة، مثل جمعية الرواد الثقافية. وانتخب بإجماع فريد نقيبا لفناني الحلة، هذا التداخل بين الإبداع الفردي والعمل الجماعي جعله بمثابة «صوت الحلة الفني»، ممثلًا لهموم المدينة وهمساتها، وأحلامها المكبوتة.
وصفه الناقد سالم شدهان غبن بأنه «كتلة إبداعية شفافة»، لا تتجمّل حين تحزن، ولا تتكلف حين تضحك، يعيش الإبداع كما يعيش الجوع والعطش، غريزةً لا يمكن كبتها. محسن، كما يراه أصدقاؤه، رجل لا يعرف الغموض، مكشوف الوجه والمشاعر، يحمل من الحلة بسطتها، وعذوبتها، ولهجتها، ويُحمّلها هي كل جماله.
كتب عنه كثيرون، وظهرت لقاءاته في الإذاعات والتلفزيونات، وامتلأت مواقع التواصل بسيرته وصوره، لكنه رغم ذلك لا يزال بعيدًا عن أضواء العاصمة، كما أشار شوقي كريم بأسف: «ما تناسته العاصمة...». وربما لم تكن العاصمة قاسية، بل هو الذي اختار أن يبقى في قلب مدينته، مستمرًا في مهمته التي بدت له أقدس من الشهرة: حفظ هوية الحلة الفنية، ومشاركتها الحياة بكل جوارحه.
في لقاء له بتاريخ 23 أيلول 2023، عبر الناقد شوقي كريم عن إعجابه بجوهر أداء الجيلاوي، فقال:» همست لنفسي في مرات كثيرة إنّ هذا الفنان لا يمثل، إنّما يغيب كي يحضر الدور فقط، معلنًا القاعدة المعرفية التي أكدها بودخوفيسلافسكي: ليس هناك ممثل صغير وآخر كبير، بل دورٌ صغير وآخر كبير.»
واسترسل كريم في الإشادة بالتواضع المهني الذي يرافق كل ظهور للجيلاوي، مهما كان حجمه في النص، معتبرًا أن حضوره في المسلسل جعل الدور يتوسّع في قلب المشاهد وكأنه بطولة قائمة بذاتها.
وليس أدائه في «أحلام السنين» وحدها من ترك انطباعًا لدى الجمهور، فقد عاد بقوّة في مسلسل «بيت الطين»– وخاصة في الجزء الخامس عام 2025– حيث جسّد شخصية «سهيل» بعمق شديد، وأحدث صدى واسعًا وقابلًا للمشاهدة، حتى أن الجمهور العربي، وفق بعض التقارير، أعرب عن تقديرهم لمواجهته قضايا اجتماعية بأسلوب درامي مؤثر
فنّه المسرحي والوثائقي: حقائق وواقع
من خلال عمله كمخرج للأفلام الوثائقية عن الحلة مثل «الحلة ماضيها وحاضرها» (2004)، و»عروسة الفرات» (2006)، حقق صدى محليًا معتبرًا، جذب الأنظار إليه كمؤرخ للذاكرة الشعبية في المحافظة.
مشاركته في المهرجانات المحلية، مثل مهرجان سينما بابل ومهرجان بغداد السينمائي، أعطت أعماله السينمائية القصيرة والثقافية رواجًا بين جمهورهم، من خلال واقعية النصوص واللغة البصرية الأصيلة.
الجيلاوي، كما قلت سابقاً، هو «رجل لا يشبه أحدًا». تنوعه الشخصي والمهني – من مخرِج وباحث ومؤرّخ – ونقاء لغته الفنية في أداء المسلسل والمسرح والوثائقي، جعله سفيرًا حيًا للحلة، يأخذ من طينها وصوته ما لا يُضاهى، ويعيد الزمان فيها، في طفولة المدينة، وحكاياتها، وأعماقها، بأسلوب وجداني راقٍ يتجاوز حدود الدراما إلى فعل إنساني ونضال ثقافي.
وقد يختلف النقاد حول أهمية هذا الدور أو ذاك، أو جدوى بعض مؤلفاته، أو حتى حماسته المفرطة في تمجيد مدينته، لكن ما لا يُمكن لأحد إنكاره هو أن الجيلاوي رجل يمشي إلى جانبه فنّه، يحمل الحلة في صوته، ويضحك للهواء لأنه يظنه رسالة من الفرات، ويخاف على سمكة صغيرة كما يخاف على فكرة مسرحية من الضياع. إنه ابن الوردية، لكنه أخو القلوب التي تعرف أن الفن لا يُدرّس فقط، بل يُعاش... ويُحب.