الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
آخر محاولة قبل الحذف

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

آخر محاولة قبل الحذف

ياس خضير البياتي  

 

قررت أن أخطو، ولو متأخرًا. فالبدء متأخرًا خير من ألا أبدأ أبدًا، أن أكتب بسطور رقمية موجزة لأقرأ أكثر، ومدركاً أن الكتابة لم تعد مجرد حبر على ورق، بل صارت مقاومة وسط سيل من الترندات العابرة. إنها محاولة للنجاة، للتشبث بالكلمة الموجزة، لإثبات أنها ما زالت تملك أنيابًا، حتى في زمن السرعة والسطحية.

جمهور اليوم تغيّر، صار يقرأ العنوان ويعلّق قبل أن يفهم، وينقر زر الحذف أسرع مما ينقر زر المشاركة، وينقر قبل أن يفكر، ويعلق قبل أن يفهم. والإعجاب الجماهيري يشبه الموج، يصفق لك مرة، ويغرقك مرات!

العمود القصير فن أن تقول الكثير بالقليل. صحيح إن الحبر لم يمت، لكنه صار مضيئًا على شاشة مضاءة. وهو ينساب على الشاشات، لكنه لا يترك أثرًا في الذاكرة، والورق صار يشيخ أسرع من الشاشات. والكاتب الحقيقي من يغيّر قلمه لا قناعاته.  فلا بأس أن أكون شيخًا يرتدي سماعات لاسلكية ويصنع محتوى على تيك توك… ولو لمرة واحدة!

كان الكتّاب قديمًا يكتبون بلاغة راقية ومتشابكة، يصوغون جملًا كأنها أسلاك كهرباء متداخلة في حي شعبي، تحتاج إلى أكثر من قراءة لتفكيكها، يقرأها القارئ مرة ليكتشف استعارة، وثانية ليظفر بتورية، وثالثة ليجد نفسه ما زال في جملة لم تنتهِ.

الإعلام الناجح لا يقوم إلا بفهم جمهوره الذي يكتفي اليوم بعنوان صادم، أو فيديو عشر ثوانٍ مصحوب بموسيقى تريند، يتنقل كفراشة إلكترونية بين المنصات، يستهلك المحتوى بسرعة البرق، ثم يكتب تعليقًا ساخرًا يختصر العالم في جملة واحدة لقول الصمت وسط ضجيج التفاهات!

الجمهور في زمن السرعة، يريد القصة في عنوان واحد، ويعتبر الجملة الطويلة رواية، والكتابة القصيرة مثل القهوة المركزة، جرعة واحدة توقظه. هو لا يقرأ التفاصيل بل يسألها. يحتاج جاذبية، أكثر من محتوى.

كان الله في عون الكاتب في الزمن الرقمي، مطلوب منه يلخص المعاني في رموز، وأن يصنع من الحروف ضوضاء ترضي جمهورًا ملولًا لا يقرأ، بل يمسح بإصبعه، مثلما يريد الحكمة في تغريدة، والمقال في كلمة، والعالَم في سطر!

لذا، قررت أن أكتب كما يليق بالزمن، لكي ألحق بزمن أسرع من أفكاري قبل أن يناديني التحديث القادم، أو كما يقولون على تويتر: «آخر محاولة قبل الحذف»!

كانت هذه الفقرات آخر ما كتبته في العمود الصحفي... أو هكذا ظننت.لكن الحزام الناري – بكل وقاحته الفيروسية – قرر أن يُملي عليّ فقرات إضافية لم تكن في الحسبان!

فحين قررتُ بكل حماسة أن أكتب هذا العمود القصير، كنتُ أخطط لما يمكن وصفه بـ»الإقلاع الكبير نحو الراحة الأبدية»...إجازة صيفية مشروعة، فيها البحر صديق، والهواء عليل، والهاتف مغلق تمامًا، كما أغلقتُ قلبي عن كل ما يمتّ للعمل بصلة.

لكن يبدو أن القدر كان له رأيٌ ساخرٌ أكثر من سطوري...

بدلًا من الاستلقاء على الشاطئ، استلقيتُ على سرير المرض، أتأمل نصفي الأيسر وهو يحترق كأنني في مشهد من فيلم لا أريد مشاهدته!

وهكذا، تحوّل هذا العمود إلى مزيج من الإجازة المفقودة، والهرش الإجباري، والتحديث الذي لا ينتظر! وبدلًا من البحر والطبيعة، أصبحت أتردد على الصيدليات. بدل المثلجات، أصبحت أتغذى على مضادات فيروسية. وبدل أن أكتب العمود، بدأت أكتب وصفات الأطباء باليد المرتجفة.

لذا، أعلن من هذا المنبر المتألم الساخر، أن يوم قراري بكتابة العمود القصير، هو ذاته يوم إعلاني الرسمي عن غيابي المؤقت: لا لأسباب التحرير أو ضيق الوقت، بل لقضاء إجازة مزدوجة... واحدة لمحاولة الاستجمام، وأخرى لمقاومة هذا «الضيف المزعج» الذي لا يعرف المزاح.

وللجميع الصحة...

أراكم – إن شاء الله – بعد أن تهدأ الأعصاب، ويغادرني الحزام، وتعود الرحلة إلى مسارها الطبيعي... بدون فواصل نارية.

 

yaaas@hotmail.com

 

 

 

 

 

 


مشاهدات 92
الكاتب ياس خضير البياتي  
أضيف 2025/07/13 - 3:11 PM
آخر تحديث 2025/07/14 - 8:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 248 الشهر 8493 الكلي 11162105
الوقت الآن
الإثنين 2025/7/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير