الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مرافئ الروح الأولى

بواسطة azzaman

مرافئ الروح الأولى

وليد الحيالي

 

 

التقديم

في "المرافئ الأولى" لا يستعيد البروفيسور وليد الحيالي فصولاً من الذاكرة فحسب، بل يوقظ أرواح الأزقة، ويمنح الشوارع الضيقة أسماءها من جديد، ويعيدنا إلى حيث تفتّحت البصيرة قبل أن يُصقل الوعي.

هذا الجزء الثاني من سيرة حياته ليس مجرد سرد لتفاصيل الطفولة والشباب، بل هو فعل استحضار عاطفي ومعرفي، يعيد تشكيل الطفولة كمنبعٍ لهويةٍ ما زالت تصارع لأجل المعنى في عالمٍ يزداد تغريباً.

وليد الحيالي، القادم من الأزقة التي لا تعرف الكذب، من المحلات التي تنام على الوجع وتصحو على الأمل، ينقّب في ذاكرته عن لحظات التكوين الأولى، عن تلك "المرافئ" التي أرسى فيها قارب روحه قبل أن تقتلعها الرياح نحو المنافي البعيدة.

في هذا الكتاب، يصير الزمن حنيناً، والمكان حكاية، والناس أطيافاً تمشي معنا في الحقول والبيوت، وتجلس إلى جوارنا حين نقرأ.

ليست هذه المرافئ مجرّد محطات نشأة، بل هي المختبر الأول الذي تفاعلت فيه الأفكار والقيم، وتشكلت فيه شخصية شاب حمل همّ السؤال باكراً، وسعى للمعرفة كما يسعى العاشق لنظرة رضا.

هنا نجد الطفل الذي كان، والمراهق الذي تحدّى، والفتى الذي عرف معنى الظلم مبكراً، وقرر ألّا يصمت.

إن من يقرأ هذا الجزء من السيرة، لا يقرأه وحده. بل يستعيد داخله مرافئه هو؛ يتذكر أمه حين كانت تدفئ كفّه في البرد، وأباه وهو يوصيه بكلمة، وجيرانه، ومدرسته، والشارع الذي ما زال حياً في زاوية من الذاكرة.

"المرافئ الأولى" ليست سيرة الحيالي فقط، بل هي مرآة لتجربة جيلٍ بأكمله، جيلٍ عاش على الحافة، لكنه لم يسقط؛ بل دوّن شهادته في وجدان الوطن والتاريخ.

كل كلمة في هذا العمل صادقة بقدر ما هي جارحة. كل صورة فيه مشحونة بتوتر الحنين وحرارة الفقد. ولعل أعظم ما يُمنح للكاتب في رحلته، هو أن يستطيع أن يقول "هكذا كنت"، بجرأة لا تغش، وبأمانة لا تخون، وبحبٍ لم يخمد رغم البعد.

إلى القارئ الذي يحمل بداخله مرفأً لم يبح به: خذ بيد هذا النص، وسِر معه. ففيه، ستعرف أن البداية الحقيقية لا تُقاس بالزمن، بل بما خلّفته من أثر.

بقلم: الأستاذ صالح النادي

المقدّمة

ليست هذه الصفحات مجرد سردٍ لحكايات منتهية، ولا استدعاء لصورٍ قديمة تبهت تحت تراب الزمن. بل هي محاولة لأن أُعيد الحياة، مرةً أخرى، لأولئك الذين عشت بينهم، ومعهم، وكنت واحداً من تفاصيلهم. إن ما يضمه هذا الكتاب، والذي أسميته "المرافئ الأولى"، ليس خيالاً منسوجاً ولا تركيباً سردياً متخيّلاً، بل هو الحقيقة، كما عرفتها وعاشت فيّ، لا كما قيلت أو دُوّنت.

لقد التقيتُهم، واحداً واحداً، في حاراتٍ وبيوتٍ وأزقةٍ وأوقاتٍ لا تعود. لم يكونوا شخصيات ثانوية في حياة عابرة، بل كانوا الأساس، النسيج الأول لذاكرةٍ لا تزال تنبض بهم، وتقاوم بهم النسيان، كأنهم لم يغيبوا قط.

في العراق، هناك حيث تتعانق المرارة بالعذوبة، كانت المرافئ الأولى تتشكّل. في تلك المحلات الشعبية، في ظلّ الجدران الطينية، وتحت شمس الصيف اللاهبة، وبين صلوات الأمهات وصمت الآباء، بدأت أعي وجوههم، أصواتهم، طباعهم، وأسرارهم الصغيرة، لم يكونوا رموزاً، بل بشراً بلحمهم، وهمومهم، وآمالهم، وخيباتهم.

كل شخصية وردت في هذا الكتاب، كانت موجودة حقيقةً، ليست إسقاطاً، ولا قناعاً لآخر. لم أُغيّر أسماءهم لأنهم أكبر من التنكّر، ولم أُجمّل تفاصيلهم لأن صدقهم كان أجمل من أي تزييف. هؤلاء، الذين عشت معهم فصول الطفولة والشباب والنضج، ما زالوا يسكنونني. أتذكر ضحكاتهم، حكاياتهم، وقفاتهم عند مفترق الزمن، ومواقفهم التي كانت تشتعل في صمت، ثم تبهت في فوضى الأيام.

بعضهم رحل بصمت، وبعضهم خذلته الحياة، وبعضهم بقي شامخاً رغم الانكسار. لكنّهم جميعاً، في ذاكرتي، حاضرون بكثافة لا ترحم. كأنهم لم يغيبوا، وكأن العراق لم يخذلهم كما خذل الكثيرين.

هذا الكتاب، إذن، ليس سيرة كاتب يتأمل حياته من علياء العمر، بل هو محاولة لاستعادة من أحببتهم وخبرتهم، من شكّلوني وأنا لا أدري، من غرسوا فيّ الوعي، والمقاومة، والانحياز للبساطة، والحقّ. لقد سكنوا أعماقي لا كأفراد، بل كعلامات على الزمن، كنجومٍ في سماء أيامٍ لا تعود.

كل مرفأ هنا ليس مكاناً فقط، بل هو شخص. هو وجهٌ عرفته يوماً، أو اسمٌ لا يُمحى، أو موقفٌ علّمني أن أكون أو لا أكون. كل سطر هو مديح للذاكرة، ووفاءٌ لصداقةٍ، أو لأبٍ غاب، أو لأمٍ نذرت عمرها لتثبيت أقدامنا فوق أرضٍ تميد.

لقد كتبتُ هذا الكتاب لأني لم أستطع أن أنساهم. ولأن وفاءهم لتلك الأيام الأولى، ولو بعد انقضاء كل هذا الزمن، لا يزال يعلّمني أن الحياة لا تقاس بما نكسبه، بل بمن نحتفظ بهم في أعماقنا رغم الفقد.

"المرافئ الأولى" ليست نهاية، بل بداية وفاء متأخّر، أُهديه لكلّ من مرّ في حياتي تاركاً أثراً لا يمّحي. ولعلّ في الكتابة وحدها، نستطيع أن نمنح الذاكرة حياةً ثانية، ونعيد لأولئك الأحبة مكانهم في خريطة القلب، حيث لا منفى، ولا موت، ولا نسيان.

البروفيسور وليد الحيالي

" سيرة قبل المنفى"

وُلدتُ في كنف أسرة بغدادية أصيلة، متجذّرة في تنوّعها، متسامية على حدود العِرق والدين والمذهب، تؤمن بأن الأخلاق قاعدة المجتمع المتين، وبأن محبة الناس ليست فضيلة فحسب، بل واجب مقدّس.

كان والدي، ناجي أحمد فخري الحيالي، ينحدر من أصول موصلية عريقة. أما جدّي الأول فكان اسمه حسين أمين و هو اسم مركب كان شيخ طريقة ما للصوفية وله أتباع ومريدين كثر وكانوا يسموه سيد جمجمة وله مزار ومرقد  باسم "مرقد سيد جمجمة"، يقع بالقرب من مدينة الحويجة ما بين كركوك وتكريت ويعتبر وجود مقامه مقدس ويزوره عامة الناس تبركاً به وتقرباً لله و أما السيد خلف حسين امين الحيالي فقد كان ضابطاً مرموقاً في الجيش العثماني وصِنفه چقمچي ( اسلحة وتسليح) وكل ما يرتبط بذلك، وتم استدعاؤه الى الخدمة عند بداية تشكيل الجيش العراقي في عام ١٩٢١، للمساعدة في تأسيس صنف التموين والاعاشة الذي كان من واجبه التسليح ايضاً ، وسار السيد خلف على نهج ابوه في الدين والتدين فقد غادر الموصل احتجاجاً على تقاليد اجتماعية حالت دون ارتباطه بمن اختاره قلبه. هاجر إلى بغداد، واستقر في أحد أحيائها القديمة الواقعة في الرصافة، في منطقة تُعرف بـ "عزّات طويلات"، قريبة من قنبر علي ومحلة المهدية.

 هناك، بنى منزله، وبمحاذاته أقام بيتاً صغيراً جعله مزاراً لممارسة الطقوس الدينية، إذ كان رجلاً ورعاً، تقياً، يملأ الإيمان قلبه، وتتوشح سلوكياته بروحانية خالصة.

من زواجه بامرأة بغدادية أنجب اربعة من الأبناء: أحمد فخري، مصطفى، حلمي وزكية التي أصبحت لاحقاً والدة اللواء الركن الراحل صالح زكي توفيق، أحد أبرز القادة العسكريين في تاريخ العراق الجديد.

أما جدي أحمد فخري، فكان الابن البكر للسيد خلف، وقد خدم ضابطاً في الجيش الذي أسّسه العثمانيون، ومن أوائل العراقيين الذين دخلوا المؤسسة العسكرية النظامية.

امتدت حياته إلى أربعة أزواج، عاكسةً الفسيفساء العراقية؛ تزوّج تركمانية، وكردية، وأرمنية، وعربية.

من الزوجة التركمانية، وهي الأولى، وُلد والدي ناجي، وعمتي نجيّة.

ومن الزوجة الكردية، أنجب جهاد، الذي سلك درب الهندسة العسكرية، وأكمل دراسته في بريطانيا، لكنه قضى شهيداً في حادث سقوط طائرة الرئيس عبد السلام عارف. أما شقيقه صبحي أحمد فخري، فقد كان من طلائع العراقيين الذين درسوا هندسة الطيران في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي. لم يعد إلى الوطن، إذ تزوّج من أمريكية، وأنشأ شركة طيران خاصة هناك. غير أن المأساة لم تغب عن هذه السيرة، فقد لقي حتفه وزوجته في حادث تحطّم طائرة، مخلفاً أربعة أطفال؛ صبيان وبنتين، تولّت تربيتهم جدّتهم من جهة الأم، وكانت من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، فشبّ الأحفاد على دينها.

أما الزوجة الأرمنية، فقد دخلت بيت الجدّ لا عن حبّ، بل نجدةً لها ولعائلتها من أهوال الإبادة الجماعية التي ألمَّت بشعبها. رزق منها بجميل، الذي التحق بالسلك العسكري، لكنه عاش مأساة شخصية، إذ هجرت أمه العراق إلى أرمينيا وهو بعدُ رضيع، فانقطعت أخبارها، وتكفلت والدتي بتربيته بكل الحنوّ والعطف.

وأما الزوجة الرابعة، العربية، فقد ظلّت حكايتها مبهمة، لا تُروى ولا تُذكَر، وظلت صورتها باهتة في ذاكرة العائلة، كأنها شبح عابر في سجلّ الأيام.

في هذا النسيج المعقّد من الانتماءات، وُلدتُ ونشأت، حاملاً إرثاً يفيض بالتنوع، مشبعاً بقيم التعدّدية، وممتناً لعائلة جعلت من المحبة لغة، ومن التفاهم طريقاً، ومن التسامح عنواناً.

 

وللحديث بقية...

الأصول الشخصية والامتداد العائلي

حين تستدرجك الذاكرة إلى ضوء بعيد، يتحوّل الحنين إلى مرآة ترى فيها وجهك الأول. عدتُ أبحث في ملامح الطفولة، في شواهد من عشتُ معهم، ومن سمعت عنهم همساً من أبي أو عمّي، وما غاب عني سعيتُ إليه عبر استقصاء شواهد العائلة، لأؤكّد أو أصحّح، وأجلو صورة الجذور.

فقد تبيّن لي أن الجدّ الأول، خلف، كان ضابطاً في الجيش العثماني، وقد رزقه الله أربعة أبناء: ثلاثة صبيان وبنتاً واحدة. أما ابنه مصطفى، فقد عمل مأموراً لِ "الطابو"، أولاً في مدينة حلب، ثم في بغداد، وهناك أنجب من زوجته كردية الأصل طيبة السريرة اتذكرها جيداً حينما كنت في الثالثة من عمري تروي لي قصصاً انام عليها مساءً – رحمها الله – بنتاً وصبياً. البنت، "أديبة"، تزوجت من العم جميل، وأنجبت رياض (درس في جامعة تكنولوجيا في مجال الهندسة الميكانيكية على نفقة وزارة الدفاع وبعد تخرجه منح رتبة ملازم أول وأوفد إلى مفاعيل تشرنوبل الذرية للتدريب على انتاج الأسلحة كما أظن، وصادف أثناء وصوله انفجار لإحدى المفاعل ليعود إلى العراق ويتوفى بسبب سرطان اصيب به في الدماغ وترك طفلان من زوجته ابنة العم أديب الذي هو خال رياض)، وسميرة. أما الصبي(أديب) فقد تنقّل في طفولته بين بيوت العائلة، واستقر في بيتنا، الرجل الكريم والمقدام، الذي ساهم في تربيتنا وترك فينا من طباعه الكثير. تعلّمت منه الشجاعة والنبل، وكان سنداً لوالدي وعضداً له. أحب العراق حتى الرمق الأخير، لكنّه توفّي في مهجره بالولايات المتحدة، وخلّف ابنه البكر، العميد الطيار نبيل الحيالي.

أما الابن الآخر، حلمي، فرُزق بثلاثة صبيان  وهم عبد الواحد حلمي، وهو أول شهيد طيار في القوة الجوية العراقية واستشهد في 18-2-1932 وهو من الدورة الثانية للطيارين العراقيين وسقطت طائرته في نهر دجلة وقد كرم من قبل الدولة على ذلك مع طياراً اخر اسمه ناطق، بأن انشأوا لهما منتزه سمي بمنتزه الشهداء نسبة لابن العم عبد الواحد ورفيقه ناطق، كما كان لحلمي ابن اخر اسمه صبحي قتل شهيداً في انتفاضة البازيخان الشهيرة في العهد الملكي ثم  عبد الرزاق، "أستاذٌ بارع للعود في معهد الموسيقى"،  لا تزال نغمة عوده الرخيمة تتردّد في أذني، وكان عبد الرزاق صديقاً لوالدي، كما كان العم أديب بمثابة أخٍ له في الصدق والوفاء.

هكذا تشكّل القسم الأول من الجذور… أما إذا تعمّقتُ في شجرة أحمد فخري، فكان والدي هو الابن البكر له، من أمٍّ تُدعى فاتنة، ذات أصول تركية، سكنت كركوك. كانت اسماً على مسمّى، أتذكرها كأنها قمر أطلّ على طفولتي ذات مساء. رزقت بوالدي وشقيقته، ثم انفصلت عن جدي بعد أن تزوّج من أخرى، واستقرّت في كركوك، في منطقة إمام قاسم، قرب شقيقيها: عزّت، مدير شرطة إمام قاسم، ونصرت، مدير شرطة تسعين، الرجل الطيب الكريم، القريب إلى قلبي وقلوبنا جميعاً… رحمهم الله جميعاً.

قد يرى البعض أنني أسرفت في التفاصيل، لكنها ليست زوائد، بل مفاتيح تضيء دواخلي وتشرح للغريب كيف نشأت أمميّتي. هذا الحبّ للناس، كل الناس، مهما اختلفت دياناتهم أو قومياتهم، هو نابع من أصلٍ أوسع من الجغرافيا وأعمق من الولاءات الضيقة.

تزوّج والدي من والدتي (فضيلة مهدي العنبكي)، التي كانت تصغره بعشرين عاماً تقريباً. جمع بينهما حبٌ صادق، رغم الفارق في العمر والطبقة. والدي من خلفية عسكرية، برجوازية مرفهة، ووالدتي من عائلة فلاحية بسيطة من ديالى. وبرغم كل الفوارق، نشأ بيتنا على المحبة والتكافل.

وقد رزقهما الله ستة أبناء: ثلاثة صبيان وثلاث بنات.

البكر، شقيقتي نجاة، كانت الأقرب إلى قلب أبي. تزوجت من الأستاذ والمربّي الكبير كمال شاكر النعيمي، أستاذ الكيمياء المعروف في الإعدادية المركزية، والذي توفّي لاجئاً في الدنمارك بعد أن ترك أثراً عميقاً فينا.

ثم جاء شقيقي طارق، رحمه الله، يليه خالد، أطال الله في عمره، ثم أنا، وليد، كاتب هذه السيرة. تليّني أختي إنعام، التي حصلت على الدكتوراه في اقتصاديات الطاقة من موسكو وتقيم الآن في كوبنهاغن، ثم أصغر أفراد العائلة، شقيقتي إيمان أكملت دراستها العليا في بلغاريا ونالت الماجيستير في الهندسة الزراعية، والتي فقدت والدنا وهي في السابعة من عمرها. كانت والدتي تلقّبها بِـ" اليتيمة"، لأنها لم تشبع من حنانه، وما زلتُ، رغم بلوغها مرحلة الجدة، أنظر إليها كأنها الطفلة التي اعتدت أن أحتضنها في أزقة الطفولة.

إيمان متزوجة من ناصر جاسم السعودي، الرجل النبيل الذي أنقذ أرواحاً شيوعية كثيرة إبان انهيار الجبهة الوطنية في العراق. كتبتُ عنه، كما كتب عنه المنصفون من أبناء ذلك الزمن المتوتر.

لقد تكشّفت ملامح الصورة الاجتماعية والطبقية التي كوّنت شخصيتي، وأضحت واضحة: هي التي دفعتني إلى اختيار الماركسية والشيوعية، لا كعقيدة عابرة، بل كامتداد عضوي لتربيتي، ولما رافقني منذ المرافئ الأولى.

أكتفي بهذا القدر من السرد الآن، مع يقيني أن الذكريات ستعيدني مرارًا إلى هناك، إلى الدار الأولى، إلى المرافئ الأولى

 

وللسيرة بقيّة...

 

 

 

 

 

الولادة: غريب عن بيت الأسرة

كُتب عليّ أن أكون عابراً منذ اللحظة الأولى. لم تُمهلني الحياة حتى أستنشق هواء البيت الذي انتميت إليه بالدم، فإذا بي أخرج إلى النور غريبًا عن الدار، والحي، والمدينة. ولدتُ مسافرًا، كما لو أن الرحيل قدري الأزلي.

كانت والدتي، وهي في أواخر حملها، ترافق والدي في زيارة إلى كركوك، حيث تقيم جدتي - أم أبي - في بستان فسيح تشقه عيون ماء تُعرف بـ "الكهريز"، في منطقة تُعرف اليوم بمحلة تسعين، وتشهد موقع مطار كركوك الحالي. هناك، في تلك الأرض (التي كانت يوماً مضارب العائلة وجزءاً من إرث جدتي)، داهمها المخاض، وولدتني.

كان ذلك في عام 1949. تباينت الروايات حول الشهر؛ منهم من قال أيلول، وآخرون أكتوبر، لكن قيد النفوس أدرجني -شأن آلاف العراقيين- في الأول من تموز، وفق ما درج عليه النظام الإداري آنذاك. أما والدتي، فكانت تقول لي ضاحكة ذات مساء:

"جيت للدنيا يوم ثورة الشيوعيين الروس"

ولم تكن تدري أنها بكلماتها تلك كانت ترسم لي ملامح مصير غريب، يشبه انتماءها لذلك اليوم الثائر. ولدت إذن بعيداً عن بيتنا العتيق في "عزّات طويلات"، البيت الذي آل إلى والدي بعد أن ورثه عن جدي، وكان قد ورثه قبله عن أحمد فخري. لم تكن تلك مصادفة عابرة، بل لحظة تأسيس لرحلة لم تهدأ. كان القدر يبعث بإشاراته المبكرة، وكان على الروح أن تفهم لغته منذ البدايات.

لا أذكر الكثير مما جرى بين تلك الولادة ويوم دخلت مدرسة "المهدية" الابتدائية في سوق حنون، قرب شارع الجمهورية. لكن مشهداً واحداً ظل ماثلاً في الذاكرة كجرحٍ مفتوح، لا يندمل: يوم الختان.

كان ذلك في دار العائلة الأولى. امتلأت باحة البيت الشرقية بالضيوف. أصوات الزغاريد والموسيقى تصدح في الأرجاء، تختلط بالضحكات والهمسات، فيما كانت هناك مقصلة صغيرة تُعدّ لطفلين لا يدركان بعد معنى الطقس. كنت برفقة أخي الأكبر خالد. أمسك بي العم أديب من يد، وخالي عبد الرزاق من الأخرى. حاولت المقاومة، لكن قبضتيهما كانتا أقوى من صراخي. تحوّلت من الاحتجاج إلى الحيلة. ضحكتُ، فسألني العم أديب مستغرباً:

"ليش تضحك؟"

فأجبته:

"فرحان، بس أريد أخويا ينختن قبلي، حتى أطمّن."

ابتسم، وأطلق يدي. وفي لحظة خاطفة، استدرتُ نحو السطح، ومنها تسلّلت عبر أسطح البيوت المتلاصقة، أقفز من دار إلى أخرى، أجوب أزقة قنبر علي، والصبية خلفي، يلهثون ويتعقبونني، كأنني في هروب أسطوري من قدرٍ مسمّى. وبعد ساعتين من المطاردة، ألقوا القبض عليّ في محلة "العاقولية" - قلب الفضل - واقتادوني مرفوعاً بالأيدي إلى ساحة "المذبحة"، حيث الحلاق في انتظاري، والموس في يده يلمع كحدّ السكين.

لم يكن هناك مخدّر، ولا مسكن. كان الألم خالصاً، جسدياً ونفسياً. وكان الحلاق، ببرودته المعتادة، يُنجز مهمته بموسٍ حاد، بينما أنا أتلوّى من وجع لا أنساه حتى اليوم.

ذلك اليوم لم يكن مجرد طقس عابر، بل لحظة فارقة في تكويني. أولى تجاربي مع التمرد، والعناد، والهرب من حفلات الألم التي تنصّبها الأعراف بأسماء الفرح. لم أكن بعدُ قد بلغت وعياً كافياً لأسمّي ما جرى، لكنني أدركت بفطرة الطفولة أني لا أقبل أن أكون جسداً ساكناً في طقوس لا أفهمها.

كان ذلك أحد أبرز المرافئ الأولى في رحلتي. وكم من مرفأٍ آخر سيأتيني لاحقاً، يحمل بصمته، ويدفع بي في رحلة لا تشبه إلا ذاتها.

التسجيل في المدرسة

في عام 1955، حين بلغت السادسة من عمري، دقّ جرس العبور إلى عتبة جديدة من الحياة: المدرسة.

لم يكن بيتنا بعيداً عن "مدرسة المهدية الابتدائية"، إحدى أعرق المدارس في محلة المهدية، وقد حملت على مدى العقود ذاكرة أجيال، بينهم والدي وأعمامي، الذين مرّوا من بواباتها ذاتها.

كان مديرها آنذاك الأستاذ عبد المجيد الساكني، رجلٌ قصير القامة، لكنه طويل الهيبة، يعتمر الصدارة الفيصليّة، ويتنقّل بخطى واثقة، ممسكاً بعصا خيزرانيه كانت أشبه بوسم انتماء، لا تخطئه ظهورنا الغضّة. كنا نهاب مروره، ونتهيب حتى من المرور أمام بيته، رغم أنه لا يبعد كثيراً عن دارنا؛ فقد اجتمع في هيبته الرهبة والاحترام، كأنما كان ظلّ المدرسة وروحها.

أذكر أوّل لقاء جمعني به، إذ نظر إليّ بحدة وقال:

"اسمع شوف، لازم تكون شاطر وتسمع الكلام. وإذا ما تصير هيچ، اسأل أبوك عن الفلقة، يمكن يذكرك بيها… تأخّر مرتين عن موعد المدرسة، وما نساها".

من يومها، صار الاستيقاظ المبكر طقساً يومياً، أدخل به باحة المدرسة قبل الجميع، كأنني أسترضي مخاوف ذلك الطفل الذي كنته.

وكان أول من علّمني، الأستاذ تحسين. رجل نحيل، أسمر البشرة، تغلّف ملامحه غموضٌ غريب، يوحي بأصولٍ غير عراقية، كأنّه جاء من بلاد بعيدة، ربما باكستان. لكنه كان نقي السريرة، طيب القلب، حنوناً في تعليمه، حتى أحببته من أول وهلة، وأحببت ما كان يزرعه فينا من حروف ومعانٍ. ظلّت صورته محفورة في ذاكرتي، كوشم لا يُمحى، حتى بعد أن تفرّقت بنا السُبل، وغادرت العراق، ونلت شهادة الدكتوراه، وصرت أستاذاً في جامعة العلوم التطبيقية في عمّان.

كان ذلك في صيف 1996، أيام الحصار الخانق على العراق، حين كنت أتجوّل وسط البلد في عمّان باحثاً عن دار نشر. لفت نظري رجل نحيل يقف خلف بسطة صغيرة لبيع أوراق اليانصيب، بثياب باهتة، ووجه أنهكته السنوات.

توقفت فجأة… يا إلهي! هذا الوجه… أين رأيته؟!

جلست في مقهى قبالته، أحدّق فيه، أستدعي ذاكرتي من بعيد، حتى ناداني قلبي قبل عقلي:

"هذا هو… أستاذ تحسين"!

نهضت إليه بحذر، كأنّني أسير إلى ضوء قديم منطفئ. سألته عن نوع الأوراق التي يبيعها وعددها. ابتسم بهدوء، فقلت له:

"سأشتريها كلها، انتظرني قليلاً فقط."

سحبت المال من ماكينة قريبة، وعدت إليه، ودفعته له كاملاً، وأضفت عليه مبلغاً آخر، وقلت:

"إما أن تأخذه، أو أن تعتبر الأوراق هدية مني."

توقّف لحظة… ثم جلس على الأرض فجأة، وأجهش بالبكاء، وقال بصوت متهدّج:

"أكيد أنت أحد تلامذتي من أيام زمان"

اقتربت منه، وقبّلت رأسه ويده، ثم حملت معه لوحته الخشبية التي يُعلّق عليها الأوراق، وأصريت أن يُرافقني. دعوته إلى مطعم قريب يُدعى "مطعم بغداد"، جلسنا فيه، وحين أخبرته باسمي، ارتعش صوته بالبكاء مجدداً… لقد عرفني، وعرف والدي وأعمامي، وكأن الزمن تقطّع فجأة ليعيد وصله بلحظة حنين.

أخذته إلى الفندق الذي كان يقيم فيه، ثم نقلته إلى شقة صديق غادر إلى الإمارات، فوجد فيها مأوى نظيفاً مؤثثاً. بقي فيها ثلاثة أيام، عزيزاً مكرّماً، إلى أن اقتنع أخيراً بأن يقبل مبلغاً بسيطاً مني، ومعه أوراق اليانصيب، هدية من قلب كان ما زال يحفظ ملامحه الأولى.

قبل العيد، قرر العودة إلى بغداد، مكتفياً بما وهبه الله من أحد أبنائه، فاشتريت له تذكرة سفر. ودّعته بدمعة متوارية، وافترقنا على وعد بالبقاء على تواصل. وبقينا كذلك… إلى أن جاءني نبأ رحيله إلى جوار ربه، رحمه الله رحمة واسعة.

وتستمر المرافئ في وطني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحرقة الصغيرة

كان شتاء بغداد عام 1956 قارصاً، وكنت في السابعة من عمري، بينما كان شقيقي خالد قد أتمّ التاسعة. في إحدى ليالي ذلك الشتاء، خلت الدار من أهلها، ولم يبقَ فيها سوانا. اجتمعنا أنا وخالد في إحدى الغرف، تتوسطها "الصوبة" - المدفأة التي تعمل بالكاز -وفوقها إبريق ماء يغلي، يرسل بخاراً كثيفاً يعبّق الهواء برائحة المعدن والنار.

كنا نلعب، كعادتنا، نُقلّد مشاهد من أفلام المغامرات، ونتصارع على السرير كما يفعل الأبطال. كانت لحظة عبث بريئة، تحوّلت في غمضة عين إلى مأساة صغيرة: دفَعْت خالد في اندفاع عفوي، فسقط من على السرير مباشرة فوق المدفأة، وانسكب الماء المغلي على بطنه.

صرخ خالد، لا صرخة طفل مدلل، بل صرخة وجع حارق أفزعني. اندفع إلى باحة البيت وفتح حنفية الماء، يحاول تخفيف الألم، بينما وقفت أنا، متجمّداً، لا أعرف ماذا أفعل. الذهول تملكني، وكأن الزمن توقف.

بعد دقائق، حضر والديّ، فكان المشهد صادماً لهما: خالد يتلوّى من الألم، وجلده المتورم يشي بحجم الحرق. سألني والدي عمّا حدث، فاعترفت له بأنني من دفعه. لكن خالد، رغم ما به، قال بصوت متقطع: "كنا نلعب“، كانت جملته تلك أشبه برداء أمان، خفّف من وطأة الحادث على قلبي، وعلى ردة فعل أبي.

نُقل خالد إلى المستشفى، ومكث فيه خمسة عشر يوماً، ترافقه والدتي التي كانت له البلسم والملاذ، وقد كان لحنانها الأثر الأكبر في تعافيه. أما أنا، فلم أنسَ ما جرى، ولا نسيت نظرة خالد حينها، ولا ارتجافة الخوف الأولى من النار والماء المغلي.

ومنذ ذلك اليوم، أصبحت "الصوبة" عقدة في بيتنا، ووصية خفية بعدم ترك الأطفال وحدهم، مهما بدا الأمر بسيطاً.

سينما الفضل – متعة ومهارة في التحايل

في سنوات طفولتي، كانت السينما بالنسبة لنا أشبه بالحلم، نافذة نطل منها على عوالم لا نعرفها. كل أسبوع، كنا أنا وخالد، وشقيقتاي إنعام وإيمان، نذهب إلى "سينما الفضل" لمشاهدة الفيلم الأسبوعي، رغم أن ميزانيتنا بالكاد تكفي لتذكرة واحدة.

لكننا وجدنا حيلتنا: بما أن الطفل المحمول على الأكتاف لا يُحتسب في التذاكر، فقد اتفقنا أن يحمل خالد شقيقتنا إنعام، وأقوم أنا بحمل إيمان، وندخل جميعاً بتذكرة واحدة فقط. كان المشهد يبدو طبيعياً من الخارج: طفلان يحملان شقيقين أصغر، لكن خلف هذه البساطة كانت هناك نية مدبّرة، ودهشة لا تخلو من التحدّي.

غالباً ما كان يُعرض الفيلم نفسه، "كينج كونغ"، ذلك المخلوق الجبّار الذي أرعبنا وأدهشنا في آن واحد. ورغم تكرار المشاهدة، كنا ننتظر المشهد تلو الآخر بشغف، نحبس أنفاسنا كأننا نراه للمرة الأولى.

كانت لحظات السينما تلك ملاذنا من رتابة الحياة، ونقطة ضوء في طفولة متأرجحة بين اللعب والخوف، بين الحلم والواقع. ولم تكن مجرّد تسلية، بل درس مبكر في التكاتف والابتكار والفرح البسيط.

 

 

 

 

 

 

تموز 1958: صحوة الوعي

استيقظتُ في صباح يوم الاثنين، الرابع عشر من تموز عام 1958، على صوت المذياع يملأ فضاء البيت بلهجة غير معتادة، توحي بأن أمراً جللاً قد وقع.

كان والدي منحنياً على الجهاز، يتابع الأخبار بوجه مكفهر، فيما بدا أخي طارق يلبس ثيابه على عجل، مفعماً بحماس لم أعهده فيه من قبل.

 وقفت في باب الصالة ألقي تحية الصباح، فردّ عليّ طارق بفرح ظاهر، بينما ظل والدي صامتاً، غارقاً في صمته الثقيل.

سألتُ، بشيء من الحذر الطفولي:

شنو صار؟

قال طارق بلهجة المنتصر:

 ثورة!

لم أفهم معنى الكلمة، فأعدت السؤال:

شنو ثورة؟

بدأ طارق يشرح لي مبتهجاً، لكن والدي قاطعه بصوت هادئ حازم، قائلاً:

نعم، الثورة قد تكون خيراً، لكن ما حدث اليوم نكبة. من يتولّى السلطة الآن عسكر، والعس


مشاهدات 208
الكاتب وليد الحيالي
أضيف 2025/06/11 - 2:37 PM
آخر تحديث 2025/06/18 - 2:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 96 الشهر 11366 الكلي 11146020
الوقت الآن
الأربعاء 2025/6/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير