المعلم لا يستبدل .. لكن من ينقذه من الظل؟
أسامة أبو شعير
في زمن تكتب فيه الخوارزميات القصائد، وتُصمّم الروبوتات وجوه الأطفال، يتردّد سؤال صارخ في ممرات وزارات التعليم: هل آن أوان استبدال المعلم بالذكاء الاصطناعي؟
قد يبدو الجواب بديهيًا: طبعًا لا.
لكن خلف هذا “اللا” تختبئ موجة من الانبهار بالتقنية، تجعل من هذا التساؤل ليس مجرد فرضية خيالية، بل توجّهًا خطيرًا يقترب منه بعض صُنّاع القرار، خاصة حين يصبح المعلم الحلقة الأضعف في منظومة متآكلة.
خرافة “البديل” التي تُغري
المتسرّعين
كتب الدكتور برثابان كيسافا بيلاي مؤخرًا: “الذكاء الاصطناعي بدلًا من المعلم؟ إنها خرافة لا يصدقها من دخل فصلًا دراسيًا حقيقيًا.”
وفي العراق، يكفي أن تزور أي مدرسة، حتى في المدن الكبرى، لتدرك صدق هذه الكلمات: التفاعل الإنساني، نظرة الحنان، السؤال المُباغت، الصمت العابر الذي يسبق الفهم — هذه كلها لا تقدر عليها الآلات، مهما بلغت دقتها.
لكن السؤال الأخطر: هل ما زلنا نُعد المعلم العراقي ليحمل هذه الرسالة؟ أم نتركه وحيدًا، يُكافح بنظام منهك، وأدوات بالية؟
آلاف المعلّمين… وبيئة لا تُنبت الإبداع
العراق لا يعاني من نقص في عدد المعلمين. لدينا الآلاف منهم في المدارس الحكومية والخاصة، وهذا بحد ذاته مكسبٌ مهم.
لكن المشكلة ليست في “العدد”، بل في “الجدوى”. فالكثير من المعلمين يعملون في بيئات لا تحتضن الإبداع، ولا تتيح هامشًا للتطوير، ولا تمنحهم التدريب المستمر أو الحرية البيداغوجية.
تُفرض عليهم مناهج مركزية، ويُقاس نجاحهم بعدد الصفحات المنجزة، لا بعدد العقول المستنيرة. فيتحوّلون إلى منفذي تعليمات، لا صنّاع وعي.
مناهج عقيمة… وأدوات بلا روح
رغم تطور بعض المدارس الحديثة التي استغنت فعليًا عن الطباشير واعتمدت على الشاشات الذكية والتجهيزات الرقمية، فإن عددًا كبيرًا من المدارس — خاصة في المناطق الأقل حظًا — لا يزال يعتمد على الطباشير كأداة يومية للتعليم.
تُركّب الشاشات أحيانًا دون تدريب المعلمين عليها، أو تبقى غير مفعّلة بسبب غياب الصيانة أو ضعف البنية التحتية. والنتيجة؟ تعليم مزدوج السرعة: مدارس “حديثة” تسير نحو العالم الرقمي، وأخرى ما زالت تكتب على سبورات باهتة وتُلقّن في صفوف مكتظة.
وهنا لا تكمن المشكلة في وجود الطباشير بحد ذاته، بل في غياب العدالة في التمكين الرقمي، وغياب فلسفة تربوية واحدة توحّد الرؤية نحو المستقبل.
الإمارات تتحرك نحو المستقبل… والعراق متردد
في خطوة استراتيجية، أعلنت دولة الإمارات مؤخرًا عن إدخال “الذكاء الاصطناعي” كمادة إلزامية في مناهج المدارس بدءًا من العام المقبل.
هذه ليست مجرد “إضافة مادة”، بل تحوّل فلسفي يعكس إدراكًا عميقًا للواقع الجديد. هناك، يُدرّب المعلم ليقود هذه المرحلة. وهنا، ما زال كثير من معلمينا يُسألون: هل تعرف استخدام الحاسوب؟
إنه الفارق بين أن ترى التقنية “أداة للتمكين”، أو “عبئًا إضافيًا” على منظومة لم تُهيّأ لها أصلًا.
الذكاء الاصطناعي لا يُربّي… فقط يُنفّذ
صحيح أن الذكاء الاصطناعي يستطيع تصحيح آلاف الامتحانات في دقائق، لكنّه لا يستطيع أن يبتسم لطالبٍ مهمّش، أو يطرح سؤالًا يلائم واقعه، أو يواسي طفلاً نازحًا فقد والده.
في العراق، حيث كثير من الطلاب يأتون من ظروف صعبة، المعلم هو القناة الإنسانية الأولى التي تربطهم بالحياة — وليس هناك تقنية على وجه الأرض يمكنها لعب هذا الدور.
من إصلاح الأدوات… إلى بناء الإنسان في دولة تمكينيّة
إذا أردنا أن نحمي التعليم من أن يصبح مجرّد “أداء آلي”، فلابد من رؤية إصلاحية شاملة، تبدأ من بناء المعلم، وتطوير المناهج، وتحديث الأدوات، لا من استيراد الأجهزة فقط.
لكن هذه الرؤية لا ينبغي أن تكون تقنية فقط، بل استشرافية تُبنى على سؤال جوهري: أي نوع من الإنسان نريد أن نُخرّجه في العراق؟ وأي اقتصاد نُخطّط له في العقد المقبل؟
في ظل التحوّل نحو اقتصاد رقمي عالمي، لم يعد كافيًا أن يتعلم الطالب كيف يحفظ القوانين أو يكرّر المفاهيم. بل يجب أن يتقن المهارات التي تُهيّئه للمنافسة والإبداع والعمل الحر والريادة.وهذا يعني إعادة تشكيل فلسفة التعليم العراقية لتكون مرتبطة بمنظومة تمكينية لا رَعوية، تنقل المواطن من متلقٍ للمعلومة إلى صانع للفرصة.وهنا، تصبح خارطة الإصلاح أكثر وضوحًا:
1. تطوير المناهج الدراسية لتُصبح منصّات تدريب مبكر على التفكير النقدي، المشاريع الريادية، البرمجة، والذكاء الاصطناعي، لا مجرد مصادر معلومات صماء.
2. تحويل المعلم من ناقل إلى ميسّر، عبر تدريب مهني حقيقي يتناول المهارات الرقمية، والتعلم التفاعلي، وأساليب التعليم المعتمد على المشاريع وحل المشكلات.
3. تحديث أدوات التقييم لتقيس نواتج التعلّم لا القدرة على الحفظ، وتدمج مهارات مثل التعاون، التحليل، والابتكار ضمن نتائج الطلبة.
4. ربط التعليم بسوق العمل المستقبلي من خلال شراكات مع مؤسسات التقنية، والقطاع الخاص، وتوسيع مسارات التخصص والمرونة في الثانوية والجامعة.
في هذه الرؤية، لا يُنظر إلى الطالب كمستقبِل سلبي، بل كرائد محتمل في اقتصاد قائم على المعلومة والمهارة والمعنى. ولا يُعامل المعلم كأداة تقليدية، بل كمحرّك للتغيير المجتمعي.
إلى صانع القرار: لا تنخدع
ببريق الآلة
الذكاء الاصطناعي أداة رائعة — لكن فقط حين يُستخدم بذكاء. ولا ذكاء في أن نبني تعليمًا رقميًا فوق أساس تربوي مهترئ.
الرهان على التقنية وحدها ليس إصلاحًا، بل هروب من مواجهة الحقيقة: لا تعليم دون معلم قوي، ولا معلم قوي دون دعم ممنهج، وإصلاح شامل لمنظومة التربية والتعليم يتناسب مع احتياجات سوق العمل المستقبلي.
كلمة أخيرة للمعلم العراقي
قد تكون محبطًا من منظومة تُحمّلك كل المسؤوليات دون دعم ممنهج، وإصلاح شامل يتناسب مع تطلعات الوطن وتغيرات المستقبل.لكن تذكّر: ما زلتَ أنت حجر الأساس في مستقبل هذا البلد.أنت من يرى في الطالب مشروعًا لقائد، لا مجرد متلقٍ.وإن كان الطباشير هو سلاحك الوحيد اليوم، فثق أن دورك لا يُقاس بالأدوات، بل بما تُلهِمه.وإذا تردّد الآخرون في الإيمان بك، فلا تنتظر أحدًا… فأنت، بدورك، تصنع الأمل، وتزرع الثقة، وتُشكّل أول بذور النهضة.
وغدًا… حين تُبنى دولة تمكينية عادلة، سيُعاد الاعتبار لدورك، وتُفتح أمامك الأبواب التي تستحقها، لأنك لم تكن يومًا مكمّلًا، بل البداية.
خبير اقتصادي ومستشار دولي للسياسات التعليمية والتنمية