إعداد الموازنة العامة للدولة وإدارة المال العام
عامر عبد رسن الموسوي
المقدمة
يمر العراق في المرحلة الحالية بظروف مالية واقتصادية معقدة تتطلب إصلاحًا عميقًا في إدارة المال العام. فبعد سنوات من الاعتماد شبه الكلي على الريع النفطي، ومع ضعف تنويع مصادر الدخل، واجهت الدولة أزمات مالية متكررة، خاصة في أوقات انخفاض أسعار النفط. وبدلاً من أن تكون الموازنة أداة فاعلة في توجيه الإنفاق وتحقيق التنمية، أصبحت أقرب إلى وسيلة لتغطية الالتزامات التشغيلية، من دون تقييم حقيقي لمستوى الأداء أو كفاءة الإنفاق. إن النموذج القائم على موازنة البنود يُغيب البعد الاستراتيجي للموازنة، ويجعلها أداة حسابية بدل أن تكون أداة تنموية، ما يدعو إلى التفكير الجدي في إصلاح هذا النظام.
يشكل إعداد الموازنة العامة للدولة إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها الإدارة المالية، فهي ليست مجرد أداة لتوزيع الموارد، بل تمثل خريطة طريق لتحديد أولويات الدولة وتحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية. وعلى مدى عقود، اعتمد العراق في إعداد موازنته العامة على موازنة البنود التقليدية، التي تركّز على النفقات بحسب أبوابها دون ربطها بشكل مباشر بالأهداف أو النتائج، وهو ما أدى إلى ضعف في كفاءة الإنفاق العام، وغياب رؤية واضحة لتقييم أداء المؤسسات الحكومية، ناهيك عن ضعف المساءلة والشفافية.
وفي ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم على صعيد الإدارة المالية، برزت الحاجة إلى اعتماد نماذج أكثر تطوراً وربطاً بين الإنفاق الحكومي وتحقيق الأهداف التنموية. وتعد موازنة البرامج والأداء من أبرز تلك النماذج الحديثة، حيث تقوم على تحديد البرامج التي تسعى الجهات الحكومية لتنفيذها وربط كل برنامج بمجموعة من الأهداف والنتائج القابلة للقياس، مع تخصيص الموارد اللازمة لتنفيذها. ويُعدّ هذا التحول خطوة جوهرية نحو تحسين الأداء المؤسسي، وتعزيز الكفاءة، وترسيخ مفاهيم الشفافية والمساءلة، وتوجيه الإنفاق نحو الأولويات الوطنية الفعلية.
وفي حالة العراق، فإن التحول إلى موازنة البرامج لا يمثل مجرد خيار إداري، بل ضرورة حتمية تفرضها التحديات الراهنة، مثل تذبذب الموارد النفطية، وتزايد الإنفاق العام، وضعف البنية المؤسسية، والحاجة إلى تحقيق تنمية متوازنة ومستدامة. كما أن هذا التحول يسهم في تعزيز قدرات الدولة على التخطيط متوسط وبعيد المدى، وتطوير نظم الرقابة والتقييم، وتفعيل دور المواطن في متابعة أداء الدولة من خلال مؤشرات واضحة وشفافة.
تهدف هذه المقالة إلى دراسة أهمية الانتقال من موازنة البنود إلى موازنة البرامج في العراق، مع بيان الأسس النظرية لهذا التحول، واستعراض التجارب الدولية الناجحة، وتحليل الواقع العراقي من حيث الإمكانيات والتحديات، واقتراح التوصيات اللازمة لتطبيق هذا النموذج بكفاءة وفعالية في سياق البيئة العراقية. وفي هذا الإطار، تبرز موازنة البرامج والأداء كمنهج حديث وشامل في إعداد الموازنات، يعتمد على ربط الإنفاق بالأهداف والمخرجات الفعلية، ويركز على تحقيق النتائج لا مجرد تسجيل النفقات. ويُعد هذا التحول ضروريًا في العراق لضمان استخدام الموارد بكفاءة، ورفع مستوى الشفافية والمساءلة، وتحقيق التنمية المتوازنة التي يستحقها المواطن. إن الانتقال إلى هذا النموذج يتطلب تغييرا ثقافيا وإداريا، لكنه يمثل ضرورة إصلاحية لا يمكن تأجيلها، خاصة في ظل الرغبة الرسمية المعلنة لتحديث النظام المالي وتعزيز فعالية مؤسسات الدولة.
المبحث الأول
مفهوم موازنة البرامج والأداء وأسسها النظرية
تُعد موازنة البرامج والأداء (Performance-Based Budgeting) منهجية حديثة في الإدارة المالية الحكومية، تهدف إلى تحسين كفاءة وفعالية الإنفاق العام من خلال ربط الموارد المالية بالنتائج المتحققة، بدلاً من التركيز على النفقات البنيوية فقط كما هو الحال في موازنة البنود التقليدية. تقوم هذه الموازنة على مبدأ أن كل مبلغ يُنفق يجب أن يُبرَّر بتحقيق هدف أو نتيجة قابلة للقياس، الأمر الذي يعزز من قدرة الدولة على التخطيط الاستراتيجي وتقييم الأداء المؤسسي، ومتابعة تنفيذ السياسات العامة بصورة أكثر شفافية وموضوعية. ويتمثل جوهر موازنة البرامج والأداء في تقسيم نشاطات الحكومة إلى برامج واضحة، كل منها مرتبط بأهداف محددة ومؤشرات أداء، تُستخدم لتقييم مدى كفاءة التنفيذ وفعاليته في الوصول إلى الغايات المنشودة. وتشتمل هذه البرامج عادة على أنشطة متكاملة موجهة نحو نتائج ملموسة، مثل تحسين التعليم، أو تقليل نسب الفقر، أو تعزيز البنى التحتية، مما يسهل مراقبة الأداء على مستوى السياسات العامة( ) .
ترتكز موازنة البرامج على عدد من الأسس النظرية المهمة، أبرزها نظرية الإدارة بالأهداف التي طُورت في الستينات، والتي تفترض أن وضوح الأهداف يساعد على تحسين الأداء المؤسسي، ونظرية الوكالة التي تؤكد على ضرورة وجود نظام رقابي بين من يضع السياسات (الجهة التنفيذية) ومن يموّلها ويراقبها (البرلمان والجمهور). كما تعتمد هذه الموازنة على مبادئ حوكمة الإدارة المالية العامة، ومنها الشفافية، والمساءلة، والتخطيط القائم على النتائج، وإدارة الأداء، وكلها تهدف إلى تعزيز الثقة بين الحكومة والمواطن. ومن الناحية العملية، فإن تطبيق موازنة البرامج يتطلب وجود بنية إدارية وتنظيمية مرنة، ونظام معلومات دقيق، وقدرة عالية على إعداد مؤشرات الأداء وتحديثها بانتظام. كما يتطلب وجود ثقافة مؤسسية قائمة على المساءلة والتخطيط، وهو ما يشكل تحدياً في البيئات التي يغلب عليها الطابع المركزي أو تعاني من ضعف في القدرات المؤسسية( ) .
المطلب الأول: تعريف موازنة البرامج والأداء
موازنة البرامج والأداء هي أسلوب حديث في إعداد الموازنات العامة، يُركّز على ربط الموارد المالية بالأهداف والنتائج المتحققة من خلال تنفيذ برامج محددة، بحيث تُخصَّص الاعتمادات المالية بناءً على الأداء الفعلي ومدى تحقيق الأهداف المرسومة لكل برنامج حكومي. ويعتمد هذا النوع من الموازنات على قياس الأداء باستخدام مؤشرات كمية ونوعية لتقييم مدى كفاءة وفعالية الإنفاق الحكومي، ما يوفّر أداة رقابية تساعد في تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام( ).
وتُعرف موازنة البرامج والأداء بأنها طريقة حديثة لإعداد الموازنات الحكومية تُركّز على العلاقة بين الموارد المالية المصروفة والنتائج المحققة، وتُصنَّف النفقات حسب البرامج والأنشطة والأهداف لا حسب البنود المالية التقليدية. ويُعنى هذا النموذج برسم برامج لكل قطاع حكومي (مثل التعليم أو الصحة) يحتوي كل برنامج على مجموعة من الأنشطة المحددة، ويتم تخصيص الموارد على أساس مدى مساهمة هذه الأنشطة في تحقيق الأهداف المرسومة، ما يخلق رابطًا مباشرا بين السياسة العامة والموازنة المالية( ).
المطلب الثاني: أهمية موازنة البرامج في تعزيز كفاءة الإنفاق واسسها
تكمن أهمية موازنة البرامج في أنها تمنح الدولة قدرة أعلى على توجيه إنفاقها بما يتوافق مع الأولويات الوطنية. كما تُقلل من الهدر المالي لأنها تمنع الإنفاق غير المرتبط بالنتائج. وبذلك، فإنها تُشكل أداة فاعلة لضبط العجز المالي، وتحسين تخصيص الموارد، وتمكين المواطن من مراقبة الأداء العام. وتُعد أيضًا مدخلًا مهمًا لتعزيز النزاهة المالية، لأنها تجعل من السهل تقييم الجهة المنفذة وفق ما تحققه من أهداف، لا مجرد ما تصرفه من أموال( ).
تُعد موازنة البرامج والأداء أداة فعالة لتحسين كفاءة استخدام الموارد العامة، حيث تتيح ربط الإنفاق بالأولويات الوطنية والأهداف التنموية بدلاً من الاقتصار على تخصيص الأموال وفق بنود إنفاق تقليدية. فهي تساعد في تحديد النتائج المتوقعة من كل برنامج حكومي وتوزيع الموارد بناءً على مدى مساهمة هذه البرامج في تحقيق تلك النتائج، ما يقلل من الهدر المالي ويوجه الإنفاق نحو الأنشطة الأكثر جدوى( ) .
كما تسهم هذه الموازنة في تحسين عملية اتخاذ القرار المالي داخل الأجهزة الحكومية، من خلال توفير معلومات دقيقة حول تكاليف البرامج ومستوى الأداء الفعلي لها، وبالتالي تعزيز المساءلة والرقابة على الإنفاق. وعندما يتم ربط الميزانية بأداء البرامج، فإن ذلك يتيح للمسؤولين تقييم العائد من الإنفاق العام، ومراجعة السياسات والبرامج غير الفعالة، مما يُفضي إلى تخصيص أمثل للموارد وتحقيق قيمة أعلى مقابل المال العام( ).
إضافة إلى ذلك، فإن موازنة البرامج تسهم في تعزيز الشفافية من خلال عرض واضح لكيفية توزيع الموارد والنتائج المتوقعة من الإنفاق، مما يزيد من ثقة المواطنين في الإدارة المالية العامة، ويقوي العلاقة بين الحكومة والمجتمع، لا سيما عندما تُنشر مؤشرات الأداء ويتم استخدامها لتبرير الإنفاق أمام الجهات الرقابية والبرلمان( ).
أما بالنسبة لأسس موازنة البرامج فترتكز موازنة البرامج على جملة من المبادئ الأساسية، أبرزها( ):
(1) وضوح الأهداف الحكومية وربطها بالبرامج التنفيذية.
(2) وجود مؤشرات أداء دقيقة وقابلة للقياس
(3) مساءلة الجهات المنفذة عن النتائج، لا فقط عن الالتزام بالصرف.
(4) المشاركة الفاعلة بين الجهات الحكومية ومجالس الرقابة المالية.
ومن خلال هذه الأسس، تُصبح الموازنة أداة للتحسين المستمر، حيث يتم تقييم الأداء بشكل دوري، ويُعاد توجيه الموارد استنادًا إلى ما تُظهره المؤشرات من تقدم أو تراجع في الأداء الحكومي.
المبحث الثاني:
التحديات التي تواجه تطبيق موازنة البرامج وواقع النظام المالي في العراق
المطلب الأول: التحديات التي تواجه تطبيق موازنة البرامج في العراق
أولًا: غياب القدرة المؤسسية والإدارية
يعد ضعف القدرة المؤسسية من أبرز التحديات التي تواجه تطبيق موازنة البرامج في العراق. فالنظام الإداري في العديد من الوزارات والهيئات الحكومية يعاني من ضعف التنسيق بين الأجهزة الرقابية والتنفيذية، بالإضافة إلى ضعف الكفاءة في الموارد البشرية. فتنفيذ موازنة البرامج يتطلب وجود كوادر مؤهلة قادرة على تحليل البيانات المالية بشكل دقيق، وتحديد أولويات الإنفاق بناءً على الأهداف الاستراتيجية. إلا أن الواقع الإداري في العراق لا يتيح هذا المستوى من الفاعلية، ما يجعل من الصعب تطبيق هذا النظام بشكل عملي( ) .
ثانيًا: الفساد المالي والإداري
يعتبر الفساد المالي والإداري أحد أكبر العوائق أمام الإصلاحات المالية في العراق، بما في ذلك تطبيق موازنة البرامج. فعلى الرغم من وجود قوانين رقابية وتنظيمية في مجال الشفافية المالية، إلا أن تطبيقها يبقى محدودًا نتيجة الفساد المستشري في العديد من المؤسسات الحكومية. وعليه، فإن الأموال التي يتم تخصيصها في موازنة البرامج قد لا تُستغل بالشكل الأمثل، بل قد يتم تحريف استخدامها أو توزيعها على مشاريع غير ذات أولوية، مما يُضعف أثر الموازنة في تحقيق الأهداف الوطنية( ) .
ثالثًا: نقص البيانات والمعلومات الدقيقة
إحدى الصعوبات الكبيرة في تطبيق موازنة البرامج في العراق هي نقص البيانات والمعلومات الدقيقة. تعتمد موازنة البرامج على وجود بيانات تفصيلية ومحدثة حول أداء القطاعات المختلفة، مثل مؤشرات الصحة، التعليم، والنقل. وفي الواقع، كثيرًا ما تفتقر الوزارات إلى آليات جمع البيانات بشكل منهجي وموحد، مما يعيق تقييم الأداء بدقة. كما أن التنسيق بين المؤسسات الحكومية في جمع وتحليل البيانات غير كافٍ، ما يؤدي إلى تعثر في التخطيط المالي وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية( ).
رابعًا: الثقافة الإدارية السائدة
تلعب الثقافة الإدارية السائدة في العراق دورًا كبيرًا في عرقلة تطبيق موازنة البرامج. فالنظام المالي التقليدي، الذي يركز على تخصيص الأموال بناءً على البنود، قد أصبح متأصلًا في عقلية المسؤولين الحكوميين. إن الانتقال إلى موازنة البرامج يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة التفكير لدى الموظفين الحكوميين، وهي مسألة قد تواجه مقاومة شديدة من قبل المعنيين. فالكثير من المسؤولين قد لا يفهمون بشكل كافٍ أهمية الربط بين البرامج والأداء، وهو ما يبطئ من عملية التحول نحو هذا النموذج الجديد( ) .
المطلب الثاني: واقع النظام المالي في العراق
أولًا: اعتماد العراق على موازنة البنود
يستند النظام المالي في العراق منذ عام 2003 حتى اليوم إلى موازنة البنود، وهي موازنة تقليدية تعتمد على تصنيف النفقات بحسب أنواعها مثل الرواتب، الإيجارات، المشتريات، وخدمات التشغيل، من دون ربط تلك النفقات بأهداف أو برامج واضحة. ويكمن الخلل في هذا النظام في أنه لا يُظهر العائد أو النتيجة من الإنفاق، ما يجعله عاجزًا عن تقييم فعالية السياسات الحكومية. كما أن هذا النموذج لا يسمح للمؤسسات الرقابية أو البرلمانية بقياس الأثر الفعلي للإنفاق العام، مما يفتح المجال لهدر واسع في الموارد وتكرار الصرف على مشاريع غير مجدية( ) .
ثانيًا: ارتفاع النفقات التشغيلية وتراجع الاستثمارات
تشير البيانات السنوية للموازنات العراقية إلى أن أكثر من 75% من الإنفاق العام يُخصص للنفقات التشغيلية، مثل رواتب الموظفين، شبكات الحماية الاجتماعية، دعم الطاقة، والنفقات الإدارية، مقابل نسبة ضئيلة لا تتجاوز 20–25% تُخصص للاستثمارات التنموية. هذا التوزيع غير المتوازن يُعطل عملية التنمية، ويُبقي الاقتصاد في حالة جمود، ويُضعف قدرة الدولة على خلق فرص عمل جديدة أو تحسين البنى التحتية. كما أن معظم هذه النفقات التشغيلية غير قابلة للتخفيض، ما يُعقّد عملية الإصلاح في حال حدوث أزمة مالية( ) .
ثالثًا: ضعف الربط بين التخطيط والموازنة
من أبرز مشكلات النظام المالي العراقي هو غياب الترابط المؤسسي بين الخطط التنموية والموازنات العامة. إذ تعمل وزارة التخطيط بمعزل عن وزارة المالية، مما يؤدي إلى فشل تنفيذ الكثير من المشاريع الاستراتيجية المدرجة في الخطط الخمسية أو السنوية. كما أن الوزارات والدوائر الحكومية لا تتلقى توجيهات واضحة تربط الإنفاق العام بتحقيق أهداف محددة، ما يُفقد الموازنة وظيفتها الأساسية كأداة للتنمية. ونتيجة لذلك، تُهدر الموارد على مشاريع ضعيفة التخطيط، أو لا تكتمل في وقتها، أو لا تُسهم فعليًا في تحقيق أي تحول اقتصادي( ) .
رابعًا: التأثير السلبي للريع النفطي على النظام المالي
تُعد الموازنات العراقية موازنات ريعية بامتياز، حيث يأتي أكثر من 90% من الإيرادات العامة من مبيعات النفط الخام. هذا الاعتماد الكبير على مصدر واحد جعل الاقتصاد هشًّا وعرضة للتقلبات السعرية في الأسواق العالمية. وعند انخفاض أسعار النفط، تدخل الموازنة في عجز كبير، ما يضطر الدولة إلى تقليص الإنفاق أو الاقتراض، مما يُثقل الدين العام. وقد نتج عن هذه الريعية غياب الحوافز لتطوير الموارد غير النفطية، مثل الزراعة والصناعة، وغياب الاستقرار المالي الذي يُعد شرطًا أساسيًا لتنفيذ موازنة برامج فعالة( ) .
المبحث الثالث:
الاستراتيجيات المقترحة لتطبيق موازنة البرامج والتحديات التي تواجه تطبيق موازنة البرامج في العراق
المطلب الأول: الاستراتيجيات المقترحة لتطبيق موازنة البرامج في العراق
أولًا: تعزيز القدرة المؤسسية والإدارية
أحد العوامل الأساسية لنجاح تطبيق موازنة البرامج في العراق هو تعزيز القدرة المؤسسية والإدارية في الحكومة. يتطلب ذلك بناء قدرات الموظفين الحكوميين في مجال التخطيط المالي والتحليل الاستراتيجي للأداء، بالإضافة إلى استخدام أدوات حديثة في إدارة الميزانية. يجب أن يتم تدريب الكوادر الحكومية على كيفية ربط الإنفاق العام بالأهداف الاستراتيجية، وتقديم الدعم المستمر لضمان أن هذه الكوادر قادرة على استخدام الأنظمة المالية الحديثة بشكل فعّال. كما يجب تحسين التنسيق بين الوزارات المختلفة لتحقيق نتائج موحدة ومتكاملة( ) .
ثانيًا: مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية
من الضروري وضع آليات فعّالة لمكافحة الفساد المالي والإداري إذا ما أراد العراق تطبيق موازنة البرامج بنجاح. يجب تحسين الشفافية في تخصيص الموارد، والتأكد من أن كل مبلغ يتم تخصيصه في الموازنة يُستخدم بشكل يتماشى مع الأهداف المحددة. يمكن تحقيق ذلك من خلال تطبيق أنظمة رقابة صارمة، وتوفير المعلومات المالية بشكل دوري للمواطنين وللجهات الرقابية، مما يعزز ثقافة المساءلة. كما يمكن الاستفادة من تجارب الدول التي نجحت في مكافحة الفساد، مثل سن قوانين صارمة وإجراء تحليلات مستقلة بشأن فعالية الإنفاق العام( ).
ثالثًا: تحسين جمع البيانات والمعلومات
تحسين جمع البيانات والمعلومات هو من الركائز الأساسية لتحقيق موازنة البرامج بشكل فعّال. يتطلب ذلك إنشاء قواعد بيانات موحدة على مستوى الحكومة، تكون متاحة لجميع الجهات المعنية. يمكن أن يتم جمع البيانات حول الأداء في القطاعات المختلفة مثل التعليم، الصحة، والنقل، مع تحليل دقيق لهذه البيانات باستخدام تقنيات حديثة. كما يجب أن تكون هناك آليات واضحة للتنسيق بين الوزارات بشأن تبادل البيانات. هذا سيسمح بوضع خطة مالية تعتمد على بيانات دقيقة، ما يسهم في تحسين تخصيص الموارد وتقليل الهدر( ).
رابعًا: تعزيز الشراكة بين القطاع العام والخاص
من الاستراتيجيات المقترحة الأخرى هي تعزيز الشراكة بين القطاع العام والخاص في تنفيذ البرامج الحكومية. يمكن أن يسهم القطاع الخاص في تطوير المشاريع الاقتصادية الكبرى من خلال توفير الخبرات والموارد المالية اللازمة. على سبيل المثال، يمكن للقطاع الخاص أن يساعد في بناء البنية التحتية أو تقديم خدمات صحية وتعليمية بموجب عقود مع الحكومة. هذه الشراكة تساعد على تقليل العبء المالي على الحكومة وتساهم في تعزيز الكفاءة، مما يساهم في تحقيق أهداف موازنة البرامج بشكل أفضل( ).
مطلب الثاني: معوقات تنفيذ موازنة البرامج في العراق
أولًا: التحديات السياسية
يواجه العراق العديد من التحديات السياسية التي قد تؤثر سلبًا على تطبيق موازنة البرامج. تعد التغيرات السياسية المتكررة والصراعات الداخلية من العوامل التي قد تؤدي إلى تعطيل أو تأخير تنفيذ هذه الموازنة. ففي حال حدوث تغيرات في الحكومة أو توجهات سياسية متضاربة، قد تتأثر أولويات الإنفاق وقد يتم تغيير الأهداف الاستراتيجية التي تم تحديدها سابقًا. علاوة على ذلك، يمكن أن تتسبب الأحزاب السياسية في العراق بتأثيرات غير مفيدة على تخصيص الموارد، مما يحد من فاعلية تطبيق موازنة البرامج( ) .
ثانيًا: ضعف البنية التحتية التقنية
تطبيق موازنة البرامج يتطلب بنية تحتية تقنية قوية تدعم جمع وتحليل البيانات المالية بشكل دقيق وفعّال. في العراق، تعاني العديد من الوزارات والمؤسسات الحكومية من ضعف في الأنظمة التكنولوجية، مما يجعل جمع البيانات وتبادل المعلومات بين الجهات الحكومية صعبًا. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي الأعطال الفنية أو نقص الموارد التكنولوجية إلى تعطيل سير العمل، مما قد يؤثر على تنفيذ موازنة البرامج وتحقيق أهدافها( ) .
ثالثًا: مقاومة التغيير في النظام الإداري
من أبرز التحديات التي قد تواجه تطبيق موازنة البرامج في العراق هي مقاومة التغيير من بعض الجهات الحكومية. العديد من الموظفين قد يواجهون صعوبة في الانتقال من النظم التقليدية للموازنة إلى نظام موازنة البرامج الجديد، حيث يتطلب النظام الجديد نوعًا من إعادة التفكير في كيفية تخصيص الأموال وتحديد الأولويات. قد يكون من الصعب على البعض التكيف مع التغييرات، مما يعرقل عملية تطبيق النظام الجديد( ) .
رابعًا: محدودية الخبرات في مجال التخطيط الاستراتيجي
تعتبر قلة الخبرات والكوادر المؤهلة في مجال التخطيط الاستراتيجي إحدى التحديات الكبرى أمام تنفيذ موازنة البرامج في العراق. يُعد التخطيط الاستراتيجي عملية معقدة تتطلب مهارات تحليلية ومالية متقدمة، بالإضافة إلى القدرة على ربط الأنشطة الحكومية بالأهداف الوطنية. ونظرًا لندرة هذه المهارات في بعض المؤسسات الحكومية، قد يكون من الصعب تنفيذ موازنة البرامج بشكل فعّال. يتطلب الأمر تدريب مستمر للموظفين الحكوميين وتأهيلهم للعمل في بيئة تتطلب التخطيط والتحليل الاستراتيجي( ) .
الخاتمة
إن تطبيق موازنة البرامج في العراق يمثل خطوة هامة نحو تحسين فعالية استخدام الموارد العامة وتحقيق الأهداف التنموية والاقتصادية. على الرغم من التحديات الكبيرة التي قد يواجهها العراق في هذا السياق، مثل ضعف البنية التحتية التقنية ومقاومة التغيير، إلا أن تطبيق هذا النظام سيُسهم في تعزيز الشفافية والكفاءة في إدارة الأموال العامة. من خلال تنفيذ التوصيات الواردة في المقال، مثل تعزيز القدرات المؤسسية، تحسين الرقابة، وتطوير التعاون بين القطاعين العام والخاص، يمكن للعراق تحقيق نتائج إيجابية في مسعى نحو تطبيق موازنة البرامج بنجاح.
الاستنتاجات
1- تعتبر موازنة البرامج أداة هامة لتحقيق الشفافية والكفاءة في تخصيص الموارد العامة، مما يساهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للموازنة في العراق. يعتمد تطبيق هذا النظام على توجيه الأموال إلى البرامج التي تحقق أهدافًا محددة، مما يضمن استخدام الأموال العامة بطريقة فعّالة وشفافة.
2- يواجه العراق العديد من التحديات التي قد تعرقل تطبيق موازنة البرامج، أبرزها التحديات السياسية والتغيرات الحكومية المتكررة، ضعف البنية التحتية التقنية، مقاومة التغيير الإداري، وقلة الخبرات في مجال التخطيط الاستراتيجي.
3- تحتاج الحكومة العراقية إلى تعزيز قدرتها المؤسسية والإدارية، من خلال تدريب الكوادر الحكومية على أدوات موازنة البرامج وتطوير الأنظمة التقنية المناسبة لجمع وتحليل البيانات، مما يعزز القدرة على اتخاذ قرارات مالية استراتيجية.
4- من خلال تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، يمكن للعراق تقليل العبء المالي على الحكومة، وتحقيق كفاءة أكبر في تنفيذ المشاريع الكبرى، مثل مشروعات البنية التحتية، التي تتطلب موارد كبيرة.
5- تحتاج العراق إلى تحسين أنظمة الرقابة والمراجعة المالية لضمان أن الموازنة تُنفذ وفقًا للأهداف المحددة، مما يعزز الشفافية والمساءلة في تخصيص الأموال العامة.
التوصيات
1- يجب على العراق تطوير استراتيجية وطنية لتطبيق موازنة البرامج، تتضمن تحديد الأهداف المالية بوضوح، وتوفير إطار زمني وخطط عمل لتنفيذ هذا النظام. ويجب أن تكون هذه الاستراتيجية مرنة وقابلة للتعديل حسب تطورات الوضع السياسي والاقتصادي.
2- ينبغي تدريب الكوادر الحكومية على استخدام تقنيات التخطيط المالي الحديث وأدوات موازنة البرامج، من خلال عقد ورش عمل ودورات تدريبية متخصصة. كما يجب تعزيز التنسيق بين الوزارات المختلفة لضمان تنفيذ الموازنة وفقًا للخطط المحددة.
3- يتطلب تطبيق موازنة البرامج إجراء إصلاحات تشريعية لضمان وجود إطار قانوني مرن يسمح بتطبيق النظام بكفاءة. يجب تعديل القوانين ذات الصلة بالموازنة العامة لضمان تخصيص الأموال العامة بطريقة منطقية وفعّالة.
4- ينبغي تعزيز الشفافية في تخصيص الموارد العامة، وذلك من خلال وضع آليات صارمة لمكافحة الفساد، وضمان رقابة مستقلة على الإنفاق العام. يمكن تطبيق أنظمة رقابية تضمن أن كل مبلغ يُخصَّص ينفق على الأهداف المحددة في الموازنة.
5- يوصى بتعزيز التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص في تنفيذ المشاريع الكبرى التي تحتاج إلى تمويل كبير. يمكن إنشاء شراكات استراتيجية تكون في صالح الجميع، مع التأكيد على الشفافية في كل مراحل التنفيذ.
6- يجب تحسين جمع وتحليل البيانات المتعلقة بالإنفاق العام من خلال تطوير أنظمة تقنية متقدمة، لضمان توفر معلومات دقيقة وواقعية تساعد في اتخاذ قرارات مستنيرة تتعلق بتخصيص الموارد.
7- يجب على الحكومة العراقية أن تركز على المشاريع التنموية المستدامة التي تتماشى مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، مع ضمان أن يتم تخصيص موارد كافية لتنفيذ هذه المشاريع بشكل فعّال.
قائمة المصادر
1- الأنصاري، حسين عبد الله. الإصلاح المالي والاقتصادي في العراق: التحديات والفرص. بغداد: دار الرافدين، الطبعة الأولى، 2019.
2- البدري، ياسين جبار. إدارة الموازنة العامة: المفهوم والتطبيقات.عمان: دار المسيرة للنشر، الطبعة الأولى، 2019.
3- الشبوط، علي جعفر.المالية العامة في العراق: قراءة تحليلية نقدية. بغداد: مركز الدراسات الاقتصادية، الطبعة الأولى، 2021.
4- الصائغ، محمد حسن. المالية العامة وإعداد الموازنة. عمان: دار صفاء للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2018.
5- عبد الغني، فاضل حسن. مبادئ إدارة المالية العامة الحديثة. القاهرة: مركز تطوير الأداء الحكومي، الطبعة الثانية، 2020.
6- مكي، نوال عبد الرحمن. أدوات إصلاح المالية العامة في الدول النامية. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات، الطبعة الأولى، 2021.
7- توفيق، أمل عبد الفتاح. إدارة المالية العامة في الدول المتقدمة. لندن: دار أكسفورد للنشر، الطبعة الثانية، 2019.
8- سامي، نور الدين. دور موازنة البرامج في تحقيق التنمية المستدامة: دراسة مقارنة. القاهرة: مركز بحوث التنمية الاقتصادية، الطبعة الأولى، 2021.