رمل الروح لا يخون الذاكرة
ڤيان القبطان
في زمنٍ يركض خلاله الناس فوق الأحداث، من دون تأمل، باتت الذاكرة ترفًا والحنين تهمة والتأمل في لحظةٍ مرّت.. نوعًا من كسل عاطفي، لكن الحقيقة الأعمق، التي لا يراها من تسطّحت علاقتهم بالزمن، هي أن الإنسان لا يعيش اللحظة فقط، بل يحتفظ بها في ركنٍ ما من روحه… ركنٍ لا يخضع للنسيان، ولا للمحو، مهما حاولت عوامل المحو أن تؤتي فعلها.قد تمرّ بنا رائحة عابرة، أو لحن قديم ينبعث من مذياع بعيد، أو حتى ظلّ شجرةٍ إهتزّ كما إهتز في طفولتنا، فنرتبك؛ لا لأننا نتذكّر تفاصيل الحادثة، بل لأننا فجأة نشعر بها من جديد.هذا هو سحر الذاكرة الحسيّة، وهو لبّ النوستالجيا: ليست الحنين لما كان، بل الحنين لما شعرنا به حين كان.لا مشهد يُنسى تمامًا؛ لأن العقل الباطن لا يُهمل شيئًا.. لا مشهد عابر في حالة حزن، ولا أغنية صدحت لحظة حب، ولا حتى ملمس المقعد الذي جلستِ عليه حين ارتبكتِ.. كل شيء يُخزّن، لا في الذاكرة المنطقية فقط، بل في ذاكرة الحواس، تلك التي لا تحتاج تفكيراً لتعمل… بل إلى إحساس.
يظهر الخزين فجأة في الأحلام والكوابيس، صوراً ضبابية لا نفهم معناها، لكنها تلامس شيئًا فينا نعرفه جيدًا، من دون أن نملك مفاتيح شرحه، متجسداً في نوع من حنين يشكل طريقا الى الداخل لا الى الخلف.يهيمن حنين عاطفياً علينا؛ فلا نعود إلى الماضي، بل نعود إلى أنفسنا كما كنا حينها، محاولين إسترجاع الشعور، لا الزمن.. جرياً وراء الأمان، لا وراء الأحداث؛ لذا فالنوستالجيا ليست نوعاً من حنين الى الماضي، هروبًا من لحظة أوهت مقاومتنا، بل بحثٌ شجاع عن نسخة دافئة من الذات، لا عن صورة قديمة؛ فليس كل شيء يُقال، بعضه يُشمّ، أو يُسمع، أو يُبكَى عليه.
مثلما.. في روايات كازانتزاكي.. قال زروبا، لصديقه المثقف:
-أنا رجل بوهيمي.. لست متحدثاً مفوهاً مثلك، لا أجيد الكلام عن مشاعري إزاءك، لكنني أرقصها لك.ومنها إشتهرت رقصة “زوربا” بأداء أنطوني كوين في فيلم “زوربا اليوناني” (1964) سيناريو وإخراج مايكل كاكويانيس المقتبس عن الرواية ذاتها.فأعمق الذكريات هي تلك التي لا نملك لها كلمات، بل تحاصرنا حين نلمح لونًا، أو نسمع وقع أقدام على درج، أو نشمّ عطرًا مرّ بنا ذات حب، أو ذات فُقدان.
ليس كل ما عشناه يُحكى، بعضه يُبكَى عليه من دون دموع، وبعضه يُخزّن في الرئتين كأنفاسٍ مؤجلة، تنتظر من يستنشقها لتعود للحياة.