الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
 الشعر ثانيةً، وثالثًة، ورابعة ...


 الشعر ثانيةً، وثالثًة، ورابعة ...

لطيف القصاب

 

سأل صحفي ياباني بارز أحد المضاربين قائلا: يا فلان حين نستمع لك وأنت تتحدث في وسائل الإعلام عن الاقتصاد، وحركة المال والأعمال وبمنطق النزيه والعفيف المؤتمن نرى فيك شخصًا مغايرًا لهذا الذي نقابله في البورصة وكلّ همه الحصول على أكثر ما يمكن الحصول عليه من المال وبكلّ الوسائل حتى غير المشروعة منها، فرد عليه المضارب الياباني بالقول: أنا في بورصة طوكيو أمثّل نفسي فقط لكنني في التلفزيون العام أمثّل أمتي العظيمة...

هذا مثال واضح على قضية العزل بين ما هو شخصي ذاتي يدور في فلك المصلحة الخاصة،  وما هو عام ينبعث من شعور الإحساس بالمصلحة العامّة...

 على المستوى الشخصي سنحت لي فرصة مناقشة أطروحة دكتوراه في اللغة العربية، وكان الطالب المُناقَش أحد أقدم أصدقائي في مدينتي الأعز كربلاء، وحين رأيت أنّ الباحث وقع في محاذير أكاديمية لم أتردد في ( مفاتشته) بها، وحين لمحت شيئا من الاستغراب والامتعاظ في وجهه الأثير إلى نفسي قلتُ له على الفور، يا فلان تعلم، ويعلم بعض الحاضرين منزلتك في قلبي، ولكن هذا أمر، وأن أكون عضوا في لجنة علمية أنت طرف فيها هو أمر مختلف يا عزيزي. لقد بدا هذا القول منّي ثقيلا عليه في بدايته، لكنّه قدّر موقفي بعد ذلك، وأثنى على موقفي ذاك بعبارات ملؤها المحبة والتقدير زادت من تمسكي به أخًا وصديقًا وباحثًا ....

أعلم أن ما سيلي من سطور سيثير غضب كثير من صديقاتي وأصدقائي ممن أكن لهم عاطفة إنسانية خالصة ، مع هذا سأقول من دون تردد لو أن الآف رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه كُتِبت في شعر النثر لما تحرّك إيماني بها قيد شعرة من حيث إنها نوع أدبي على جماله وجلاله لكنّه أبعد ما يكون عن ما نعرفه من الشعر لغةً واصطلاحًا، وأتصور أن كلّ من قرأ معلقات ( الجاهليين)، وأشعار الأندلس، ودواوين أبي نؤاس، وبشّار، والمتنبي، والشريف وأبي فراس، والمعري -بصرف النظر عن ترتيبهم التاريخي والفني- وكذا أعمال العشرات من نظائر هذه الدرر النفيسة ممن جاء بعدهم سيشاركني فكرة أن الشعر العربي عماده العمود سواء الكلاسيكي منه أو الحديث، أمّا سائر الأشكال المحدثة فهي من حيث التجنيس الأدبي في أقل تقدير تنتمي إلى دوائر إبداعية أخرى...

ما أثار سخطي في هذه المسألة، وحملني إلى تدبيج مقال (آخر) عن هذا الموضوع أن بعض المعارضين الأشداء -سابقا- لمحلّ قصيدة النثر من إعراب الشعر صار بعضهم – ويا للغرابة-  من دعاة قصيدة النثر، وحماتها في تنصّل عجيب عن " كامل" أرشيفهم النقدي الذي لم يزل غضا طريا ! ويا ليت أن القضية هنا تتعلق بتغيير القناعات، فهذه حالة صحيّة تماما لا يجادل فيها أي شخص زاول مهمة التفكير، ومهمة إعادة التفكير لكن الأمر للأسف أبعد ما يكون عن تلك المقاربة الفلسفية الرائعة .

إنّها – ببساطة-  المصالح الخاصة هي التي جعلت من هؤلاء يستديرون بهذه الزاوية الحادّة ...

ما يزيد من كآباتي وأنا أقرأ في بعض نصوص الأصدقاء من ذوي الميول " النثرشعرية" هو إزراؤهم عمليًا بأعظم ما في "ديوان العرب" ألا وهي اللغة الجزلة والغنائية الرخيمة، وسائر ما يدخل في أبواب البديع والبيان والمعاني، فضلا عن خلو منجزهم أو معظمه أو بعضه من جماع العواطف الإنسانية التي هي بطبيعتها الخالدة مشتركٌ شعري جامع لكلّ الثقافات البشرية، وليت هؤلاء وهم سادرون في هدم المزايا العظيمة لتراثنا الشعري تاريخا وحاضرا جاؤوا لنا بمعادلات موضوعية لما هو بصدد نسفه...

ختامًا (أُوَكِّد) ثانيةً ما نوهتُ به آنفًا فأقول:  إن كثيرين سيغتاظون من كلماتي هذه لكنْ لا ضير، ولا غضاضة؛ فالدفاع عن الحق أو الحقيقة حتى لو كانت عبارة عن وجهة نظر شخصية يستحق كل أنواع التضحيات...

أيّتها السيّدات أيّها السادة: إنّ الغنائية والموسيقى أعظم ما في الشعر العربي بل العالمي بحدود ما اطلعت عليه من آداب الأمم القريبة منّا والبعيدة عنّا كما أنّ الشعر لاسيما العربي مشتقٌ من الشعور، وأيُّ نصٍ يفتقر لهذا الجذر لا شعر فيه!

 


مشاهدات 37
الكاتب لطيف القصاب
أضيف 2025/05/12 - 4:26 PM
آخر تحديث 2025/05/13 - 9:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 516 الشهر 15832 الكلي 11009836
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/5/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير