الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رواية الطفولة ... ومعنى أن تكون إنساناً


رواية الطفولة ... ومعنى أن تكون إنساناً

ترجمة: رمضان مهلهل 

 

رواية "الطفولة" للكاتب الروسي ليو تولستوي، وهي باكورة أعماله المنشورة، تعدّ استكشافاً هادئاً، وتأملياً، وشاعرياً راسخاً في الذاكرة والبراءة، وتكوين الذات الداخلية. كتبَ تولستوي هذه الرواية في أوائل العشرينيات من عمره، لكنها تُظهر بالفعل العمق العاطفي والبصيرة النفسية التي ستُميّز روائعه اللاحقة. وبدلاً من تقديم سرد مباشر، تتكشف رواية "الطفولة" من خلال سلسلة من الانطباعات العاطفية – مجتزأة ولكنها حية – يرويها نيكولينكا، وهو فتى حسّاس نشأ في أسرة روسية ثرية.

في جوهرها، لا تدور الرواية حول الأحداث الخارجية بقدر ما تنشغل بالتحوّل الداخلي. فاهتمام تولستوي لا ينصبّ على الحبكة، بل على تصوير المشهد العاطفي لمرحلة الطفولة: المخاوف، والشوق، والحيرة، واليقظة التي تشكل وعي الطفل بالعالم. ومن خلال عينَي نيكولينكا، نعيش مزيجاً من الفرح والحزن، والحب والقلق، ذلك المزيج الذي يصاحب عملية النضج وسط عالم الكبار الذين غالباً ما تكون مشاعرهم خفية أو متناقضة

ومن أبرز سمات الرواية هو صدقها. إذ لا يوجد هنا أي تمجيد رومانسي لفترة الطفولة. بل يصوّرها تولستوي كفترة من الهشاشة والاضطراب العاطفي. نيكولينكا طفل مليء بالتناقضات – فهو قادر على إظهار حنان كبير تجاه والدته وإخوته، ومع ذلك فهو أيضاً سريع التأثر، ومغرور، وأحياناً قاسٍ على نحوِ ما يمكن أن يكون عليه الأطفال. فحياته الداخلية غنية، مليئة بالانتصارات المتخيلة والذنب الشخصي، ويلتقط تولستوي هذه التفاصيل الدقيقة بحساسية رائعة.

الرواية أيضاً مشبعة بإحساس عميق بالفقد. فمنذ بدايتها، هناك وعي بأن الطفولة هي لحظة عابرة، وأن نقاءها مهدّد دائماً بفعل عالم الكبار. ويُلقي الموت، وخاصةً وفاة والدة الراوي، بظلاله الثقيلة على السرد بأكمله، مُعلناً نهاية البراءة وبداية وعي أكثر إيلاماً بهشاشة الحياة. هذا التغيّر العاطفي يُضفي على رواية "الطفولة" طابعاً مُؤرقاً، يكاد يكون كئيباً، حتى في أجمل فقراتها.

أما أسلوب تولستوي في هذه الرواية، فهو شعريّ ولكنه متماسك. إذ جاءت أوصافه رقيقة وحالمة، وغالباً ما تُركّز على تفاصيل صغيرة تبدو عادية – إيماءة، أو نظرة، أو منظر طبيعي صيفي – لكنها تحمل شحنة عاطفية كبيرة. والنتيجة عمل يبدو حميمياً وتأملياً، كما لو أن القارئ مدعوٌّ للجلوس بهدوء بجانب الراوي والاستماع إليه وهو يبحث في تلافيف ذاكرته.

وعلى الرغم من أن رواية "الطفولة" تفتقر إلى الانفتاح الواسع الموجود في رواية "الحرب والسلام" أو الجاذبية الأخلاقية لرواية "آنا كارنينا"، إلا أنها رواية تكون أساسية لفهم روح تولستوي الأدبية. فهي تقدّم ثيمات سيتردد صداها في مجمل أعماله اللاحقة: الحياة الداخلية كواقع حقيقي، والشدّ بين النقاء والفساد، والبحث عن المعنى في عالم نادراً ما يُقدّم إجابات واضحة.

رواية "الطفولة" هي تأمل شخصي دقيق – ليست مجرد بداية لمسيرة كاتب، بل هي أيضاً رحلة عمر بأكمله نحو فهمِ معنى أن تكون إنساناً.


مشاهدات 79
الكاتب رمضان مهلهل
أضيف 2025/04/22 - 4:05 PM
آخر تحديث 2025/04/23 - 9:35 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1145 الشهر 24893 الكلي 10905540
الوقت الآن
الأربعاء 2025/4/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير