الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التلوث البصري

بواسطة azzaman

التلوث البصري

نهلة الدراجي

 

لكل حضارة طابعها المعماري وروحها الجمالية التي تُترجم إلى طُرقات مرتبة، وحدائق مُهندسة، وألوان متناسقة، ولافتات تُشبه المجتمع الذي تنتمي إليه. لكن، ماذا لو تحوّلت هذه المساحات إلى لوحات مشوهة؟ ماذا لو أصبحت مدننا بلا ملامح، بلا ذائقة، وبلا نظام؟ 

في مشهد تتداخل فيه العشوائية مع الإهمال، وتتنافس فيه الإعلانات واللافتات على تشويه البصر، تقف مدن العراق اليوم أمام تحدٍّ جمالي خطير، لا يقل في أهميته عن التحديات الاقتصادية أو الاجتماعية،  «التلوث البصري» الذي تسلل بهدوء إلى الشوارع، واستقر في الأرصفة، وغزا الجدران، حتى بات جزءاً من يوميات المواطن، ومرآة لمجتمع يئن تحت وطأة فوضى الذوق العام.

بينما تُبدي بعض المدن حول العالم حرصاً مفرطاً على تنسيق ألوان الأرصفة، وضبط ارتفاع اللوحات الإعلانية، وتحديد أماكن الحاويات بدقة، نشهد في مدننا العراقية اتساعاً مؤلماً لرقعة التلوث البصري، في صورة تُجسِّد فقدان الانسجام بين الإنسان والمكان، وغياب التخطيط الحضري طويل الأمد، الذي يضع في اعتباره ليس فقط البنية التحتية، بل أيضاً البنية البصرية للفضاء العام.

إن التلوث البصري، كما يُعرّفه المختصون، هو كل ما يبعث على النفور أو الإزعاج للعين، من مشاهد غير متجانسة، أو تصميمات غير مدروسة، أو عناصر دخيلة على المشهد الحضري العام. وفي العراق، تتجلى هذه الظاهرة في صور متعددة: من مبانٍ متهالكة تتوسط أحياء جديدة، إلى أكوام نفايات تتوزع بعشوائية، إلى لافتات إعلانية تفتقر إلى الحد الأدنى من الذوق، بل وتتجرأ أحياناً على الذوق العام بألفاظها وصورها ومضامينها.

ولا يُمكن الحديث عن التلوث البصري دون الإشارة إلى سوء التخطيط العمراني، وغياب الرقابة على التصميمات المعمارية، وترك المجال مفتوحاً أمام الحملات الإعلانية غير المنظمة، التي تحوّل الشوارع إلى حلبة تنافس فوضوي، لا يراعي لا الذوق العام ولا خصوصية المكان أو قدسيته أو تاريخه.

إن مدن العراق، بتاريخها العريق وإرثها الحضاري، تستحق أن تُعامل بما يليق بها من احترام بصري. فالفن المعماري ليس ترفاً، والتجميل الحضري ليس كماليات، بل هو انعكاس مباشر لمدى رُقي المجتمع وتحضّره. ولا يمكن للإنسان أن يشعر بالانتماء إلى مكان لا يُشبهه، أو يُشوه ذائقته كلما نظر حوله.

إننا اليوم، أمام دعوة ملحّة لتبنّي مشروع وطني شامل لإعادة تأهيل الفضاء العام، يبدأ من تشجير الشوارع، ويمر بتوحيد نماذج اللافتات، ويصل إلى إعادة النظر في التخطيط العمراني للمدن والأحياء. مشروع لا يهدف فقط إلى إرضاء العين، بل إلى استعادة الجمال بوصفه قيمة حضارية، وركناً أساسياً من أركان السلام المجتمعي. فحين تتحول المدينة إلى مساحة مشوهة، فإن ما يتلوث ليس البصر فحسب، بل الذوق، والوجدان، والانتماء.

 

 

 

 


مشاهدات 96
الكاتب نهلة الدراجي
أضيف 2025/04/26 - 3:18 PM
آخر تحديث 2025/04/28 - 3:08 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 258 الشهر 30129 الكلي 10910776
الوقت الآن
الإثنين 2025/4/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير