الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المنشأ الأبستمولوجي في بنيّة النص البصري


المنشأ الأبستمولوجي في بنيّة النص البصري

رياض ابرهيم الدليمي

 

ان آلية هدم القوانين السائدة في الحركات الفنية  بما تمثله من أسس ومبادئ وقيّم فالتمرد عليها لابد أن يقف وراءه مغزى  وفكرة تستحق الدراسة والبحث ، لذا يسعى الفنان كريم سعدون كواحد من الفنانين لتهديم أركان التقليدية الاصولية بالفن التشكيلي ومعياريتها من خلال انجاز الشكل الفني المعتاد وبالألوان الفخمة البهيجة ، حيث يعتقد الفنان السعدون أن تحرير الشكل واللون من العقلنة والقوننة يصبح اكثر قدرة وملائمة للتعبير عن الواقع والنظر اليه من زوايا فنية وفكرية ورؤى جديدة مشخصة وناقدة اليه  دون حذر وتوجس وتفتح نافذة لرؤية عالم مختلف لا يتخذ من جمالية الشكل أداة طيّعة لخدمة الدمار الذي خلفته الآلة من خراب للأوطان والانسان والجمال ، بل اتخذ من الخطوط البسيطة واللون المعتم أدوات  تعبيرية كحالة رفض وصرخة بوجه واقع مؤلم الذي سخر الانسان لخدمته وخدمة طموحاته للسيطرة على مقدراته وقدراته وكرامته ، فهي رسوم هجاء وسخرية بخطوط وألوان مقتصدة ومختزلة  لتكون أكثر تعبيرا .

 

يعد التمرد على السائد من القواعد الفنية  تعد خطوة أولى رافضة لكي لا يكون الفن أداة مسخرة بيد المغامرين بحياة البشر وارضاء لغرورهم وكبريائهم واستنزافا للإنسان ، لذا يُعد الاحتجاج الفني بوجه التعسف ثورة ثقافية ضد تسخير الانسان كآلة وأداة بيد الدهاقنة وتجار الحروب ، فهي وظيفة جديدة ظهرت في مقتبل القرن العشرين قد عبر عنها الفنانون وخاصة التعبيرين منهم الذين خاضوا مخاضا عسيرا ضد سلطة النازيين الذين عاثوا بالأرض دمارا وخرابا وزهقوا الأرواح من أجل طموحاتهم المريضة بالسيطرة والهيمنة على العالم .

عندما يرى الانسان سخرية الواقع وأقداره والعبث فلابد من اللجوء الى وسائل تكبح جماح الاستغلال ، والفنان بوصفه شاهدا وفاعلا ومسؤولا ستكون مهمته ليست باليسيرة للوقوف بوجه تلك الاقدار التي رسمها المغامرون ، نصوص كريم السعدون هي تمرد ودعوة لثورة فكرية وذوقية واعادة صياغة مفردات الجمال لتكون أكثر تعبيرا عن هموم الانسان ، فهي صناعة وخلق جديد لمفهوم فني يرتكز على اِرث فني لما سبقه  ، فيحاول ترك بصمة تأمل وتشخيص ثم انشاء النص الذي يواكب ويحاكي كل ما يضمره فكره وضميره وقلبه .

السعدون يبني لوحته على أسس ومرتكزات فنية وجمالية بسيطة بخطوطها وألوانها وبنائها الانشائي لتحاكي المشاهد ومعبرة عنه بأسهل الطرق والوسائل ، فمن الصعب ان نقرأ نصوص وبصريات السعدون جماليا وذوقيا قبل أن نتلاقها على شكل رسائل ثقافية وفكرية ملغمة وملغزة ورسائل متروكة تركها  راوٍ وبطل غائب حاضر فمحيت بعض من متونها لينشئ السعدون على ورقها الممزق والتالف نصوصه على ركام هذه الرسائل الممحاة ، وكأنه يود القول : ان ما تركه الآخر الغائب من يوميات وتفاصيل وأسئلة قد لا تختلف عن الرسائل التي يود أن يدونها كريم السعدون بذات النسق والسياق من الهموم  ، فهي مكملة لبعضها البعض أي أن الانسان مازال مكبلا بالقيود في ماضيه وحاضره وقد تكون هذه القيود متصلة ومتواصلة فلابد من تجريدها والبحث في ماهيتها وسبرّ أغوارها ، لأنها تشكل عقدة للإنسان ، فقد أرهقت تفكيره وحياته سواء كانت واقع مرير يعيشه أو اسئلة باحثة عن ماهية الوجود وجدواه وماذا بعد هذا الوجود والذي شكل هاجسا مخيفا ومقلقا للإنسان منذ نشأته الأولى .

النص لدى السعدون يغدو حوارا بين خطوط وألوان وفضاء وعبارات وأرقام ، فتشكل هذه الأبجديات نصوصه البصرية فهي تطريسات وجملا في غاية التعقيد بالرغم من محاولة تجسيدها بفرشاة طفل قد لبس ردائه السعدون ليكون طفلا عابثا مشاكسا ساخرا من الأقدار التي ألمت به . فمنها واقعية ومنها انثيالات فكرية ، فجاءت تكويناته موحشة تركت على الجدران وجوه غريبة لم تفصح عن هويتها فتكررت أشكالها وأطوالها وغلب عليها اللون البني وتدرجاته واللون النحاسي والذهبي وكأنها أشكالا وشخوصا وأفكارا عفا عليها الزمن ، فتركها هائمة مؤطرة كدمى تتماثل على فضاءات لوحات السعدون ، فاكتفى بوضعها في خانات أدراج متحفه ، كأشكال من الأجناس والأصقاع بأرشيف امتلأت خزائنه منها ، وهي دلالة على رسائل ومحطات متروكة تركها الفنان في هذه الخزائن ليلفّها غبار الزمن منتظرة أن يعيدها الى الفعل الآدمي لتتخذ وظيفة جمالية وديناميكية في هذه الحياة والوجود .

كريم سعدون قد ترك وطنه حاملا اياه في حقيبته مع ذكريات وجدران مثقوبة وشحت عليها دوائر هندسية أو بقع دائرية بعبثية اللون والشكل ، انها فراغات لأسئلة ودهشة لمصير انسان لا تحتويه أرض وفكرة ولوحة ، فاتخذ من السفر حلاً ليسترح فكره من هذه الهموم والمآسي ، لقد حمل أوجاع شعب بأكمله وحمل هموم الانسان في هذه الحقيبة وأخرى قد تركها في مكتبته ومتاحفه فصارت ألوانه اكثر صدأ وقدما فعشعشت فيها العثّة وباتت الأمكنة موحشة مهجورة تجوبها الكلاب والقطط ، وكأنه يقول : ان هذه الأرض لا تصلح للعيش فحرّي بالإنسان أن يتخذ كواكبا أخرى للعيش بعيدا عن هذا الضجر والخطر والتهديد واختلال النظم فيه  .

عندما تشتد المخاوف والهواجس يلجأ الفنان الى الابتكار والخلق والصناعة لصياغة نصوص تحاكي كل هذه التحديات فلم يلتزم بهندسية الشكل  ويحاول أن يهشم عقلانيتها لتحريرها من القيود ، لهذا يجتهد السعدون على اِفراغ الشكل الهندسي من بعض محتواه الوظيفي ليعبر عن ثيّمه دون قيود ، فتجد نصه أكثر حرية وفاعلية وبساطة وتشكيلا دون الالتفات الى الاكاديمية المقننة (على القوانين أن لا تكون سوى ركائز تسهّل عملية الخلق بحرّية ) .

اللوحة لدى السعدون لا تصاغ برؤية من منظور أحادي فتراها تتبدل ألوانها وحروفها وثيمها لتكون أكثر سيرورة للتعبير ، لتشكل واقعا أغزر جمالا واستكانة وعيشا .

وجوه كريم سعدون قابعة منفية خلف ذواتها المنكسرة والمقهورة والتي تلاشت معانيها التعبيرية الظاهراتية حين اكتفت بالتخلي عن ماهيتها وكنهها الوجودي فاستراحت لتعطي نفسها قسطا تأمليّا لما حدث أو قد يحدث ، وكيف تشكل تاريخ الوجود فاكتفت بالأسئلة والحيّرة والاستفاهم ، وفي هذا السياق عن ثيمة الوجه يؤكد الفيلسوف إيمانويل ليفيناس (( الوجه هو الذي يبدأ كل خطاب، وكل إمكانية للخطاب، بما فيه ذلك الذي يعبر عن المسؤولية التي ستقوم عليها العلاقة الأساسية بين الأنا والآخر  )) .

ثمة اِلهٌ مفقود لم يرسم أو يحمل وشما على هذه الوجوه التي لا تفارق نصوص كريم السعدون منذ نشأتها ، هذه المحن من السؤال والاستغراق فيه لم يتركه ليستكن برهة هذا ما نلمسه في جلّ أعماله ، فما لبث قد أرقه وجه الاِله الذي يأمل أن يلاقيه ، ففي كل مرّة  يحاول أن يُرّكب ذات النص المكرر لوجه آدمي وجسد يشير لانسان غير معرف الهويّة والملامح والكنّه .

نصوص السعدون التي تمثلت بعشرات الأعمال قد حملت طابع الانكسار والعزلة والتأمل ، سؤال قد أرهق النص أكثر مما أرهق الفنان ذاته ، فتكررت الوجوه المتلاشية بسوادها ودوغمائيتها واستهلالها ، انها رحلة قد أرهقت كلكامش من قبل وهاهنا نحن نشاهد كريم سعدون مكملا اياها رحلة عنوانها اليأس والبحث في المجهول ، فليس من نبي قد حمل له البشرى ليجيب على الاسئلة بيقينية باتة ، ولم يحتفظ السعدون بما حمله الأنبياء اليه من رسائل مبشرات سوى القلق وتفاقم الحيّرة لديه .

لقد ترك السعدون الرسائل وبات منشئاً وباثا لرسائل لم تختم بطابع وبصمة بل هي رسائل شخص مجهول بلا توقيع وإمضاءه ، فتراه يتخيل الأجوبة على لسان وجوهه غير المعرفة وخلت من هوية وانتماء ، بل هي شخوص عالمية تحمل ذات الهمّ والقلق الوجودي وقلق الوجود نفسه الذي يحاط بالمخاطر والموت والنفي والعزلة والاخصاء المعرفي الاستكشافي ، والذي تحول فيه الانسان الى آلة بدلا من أن يكون اِلهً متسلطا على الجسد الذي يحمله ، هذا الجسد ذا استطالة وقصر و انحناءة وتكور صورت كنصوص مدونة في مفكرة السعدون اللونية فصورها فارعة الطول ذات امتدادات لانهاية لها وكأنها سابحة في هذا الوجود وهذا الفضاء دون أن ترتكز على أرض صلبة ، فهي هنا تشير الى حالة من الفوضى الفكرية والعقلية والروحية ، فالجسد لا يستند على أرض أو جدار أو جذع شجرة ، حتى الجدران تغدو ذكريات ملطخة بالأسى صدئة مثقوبة كما الذاكرة التي لم تحتفظ سوى بذاكرة الوجع العراقي هي ( بعض ما تبقى و هامش المدن ) .*

شخوص السعدون مكفنة وبلا أذرع وبلا وجوه أو بأنصاف وجوه مكبلّة متسمرة في الأمكنة لا ديناميكية لها كمومياءات وبلا حضور فقد اكتفت بالوقوف والمراقبة ، شخوص تخلت عن زمنها العمري وتخلت عن أمكنتها وتاريخ ولادتها وسلالاتها ، قد اجتمعت على خامات السعدون كنصوص مجهولة النسب والعرق واللغة ، وهنا المكان الذي التقت فيه يشي أن يفصح عن نفسه ، فقد يكون رمادا أو ضبابا أو ذاكرة معطوبة أو جدرانا متشققة أو على ظهر سفينة أو على مفترق الحدود الفاصلة بين القارات ، هي ثمة أفكار أكثر مما هي شخوص ومجسدات ونصوص تعبيرية ذات خطوط وألوان لانهاية لها ، فهنا الخطوط تتتشابك ووتنافر والألوان تتناغم وتنصهر مع بعضها مجازا لا تصويرا ، فليست هناك حالة التقاء ونهاية لأنها سابحة وعائمة متلاطمة مع أمواج البحار ومتدحرجة مع الريح الزمهرير ترسم بدايات وبلا نهايات واضحة المعالم ، فالنصوص البصرية المنشأة هنا هي علامات الأنا والآخر بدلالة الوجه الذي يعتلي الجسد وعلاقته مع ذاته أولا ومع الآخر ثانيا قد يشكلان ثالوثا بين ( الأنا والجسد والآخر ) ، فكل من هذه الدوّال تشكل حيزا في جغرافيا النص الذي لم يجسده السعدون لحد الآن (  الأنا والآخر مفهومان يعبّران عن تمثّـلات ذهنيّة يكوّنها الأفراد - كما تكوّنها الجماعات - عن ذواتهم/ذواتها وعن غيرهم/غيرها، كلّما كان لذلك الغير شكلٌ مّا من الحضور في وعي هؤلاء الأفراد أو تلك الجماعات، حضوراً ذهنيّاً صرفاً كان أو معزَّزاً بوجودٍ ماديّ قائمٍ في الحاضر) ، فالنص لديه غير منتهي فهو متتالية نصيّة للوحة لم تكتمل فهو عبارة عن سلسلة من القهر الوجودي والعذاب النفسي والفكري يحمله هذا الفنان منذ أن حطت قدماه الأرض العدم ، فيقولون عنها أنها بقايا مياه جفت أو فلقة انشطرت من كوكب قد رمت كريم السعدون على جرف المنافي والغربة فسجل رقما له في سجلات الاحياء الموتى فأصبح رقما في التاريخ العولمي ، فتراه آلة أو فرشاة أو قلما أو سمكة في متحف الوجود ، فيسعى أن يكتب ارشيفا لعائلته وسلالته محتفظا به في خانات العصر الجليدي ، انه غريب الوطن وغريب الوجود لا عالم قادر أن يحتوي أفكاره وأحلامه فيناجيه الشاعر المتنبي : (بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ ) ( ارشيف عائلي ) .

لوحات كريم السعدون طوابع بريد ورسائل الفردوس المفقود وتطيرسات  حفرت ونقشت برأس دبوس ، فهي حفريات على تاريخ الميلاد لم تنفك عنه فتجدها ملازمة اليه ، شكلت دوائر وطوطميات ووشوم على كهوف الحياة ، فالفكرة لديه بمثابة مغارة تركت عليها خطوطا وعلامات لتكوينات وألغاز وحرز تبدد مخاوفه ، فترك القطة فارعة الجسد وبشراسة الشاربين ورشاقة الحركة وذات الملامح البشرية وهي تستعد للقنص أو الهروب الى تلك المغارة ، ويبدو هنا أن هذه القطة تعاني ما يعانيه الانسان من مصير مجهول ، فالاعتكاف هنا والهروب الى الماضي الذي تمثله المغارة والكهف هو بمثابة انهزامية ونكوص من تفاهة العالم الجديد وقيّمه وحضارته التي تقوم على مبادئ ( ان البشر عبارة عن آلات انتاج وحصاد ) ، وحري بها أن تبقى عجلتها في ديناميكية الحركة عبر الفصول لوفير الربح والكسب ، وكل آلة من هذه الآلات الحيوانية ما أن تشيخ فمصيرها محارق الزمن كأية نفايات ضارة .

ان الكتل اللونية وتعدد خطوطها وتكرارها قد نلاحظها شاخصة في أعمال السعدون منذ عام 2007 وما زالت فتشكل مشهدا علاماتيا فلابد من الوقوف عليها بتمعن ، فمن ناحية المعنى تشير الى أن الأفكار والخواطر التي تشكل شخصية الفنان تعبر بالضرورة عن هواجس واسئلة قائمة في فكره ومهيمنة عليه فأرتى أن يوثقها ويصورها باسلوبه التعبيري الرمزي والتجريدي ، فهو يقول الحقيقة التي يعتقدها خارج المدرك الواقعي ، فالفنان هنا يلبس لباس النبوءة والمقاربة من وجهة نظره القائمة على الحدس والتوقع للحدث فيقوم بدور المؤول والمفسّر بالخط واللون والعبارة والرقم والوشم ( وجود مؤجل حقول الغريب مصادر الحكايات ) .

 


مشاهدات 66
الكاتب رياض ابرهيم الدليمي
أضيف 2025/04/12 - 2:27 PM
آخر تحديث 2025/04/13 - 6:40 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 830 الشهر 12400 الكلي 10593047
الوقت الآن
الأحد 2025/4/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير