الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في حضرة القصيدة  تأملات في قصيدة إطلالة النَدى للشاعر شلال عنوز


في حضرة القصيدة  تأملات في قصيدة إطلالة النَدى للشاعر شلال عنوز

 ناظم ناصر القريشي

 

في لحظة شعرية نادرة، تتوارى الكلمات خلف المعنى، لتولد القصيدة كائناً يتنفس، يتجلى، وينبعث فينا كندى الفجر.
في "إطلالة النَدى"، لا نقرأ قصيدةً، بل ندخل محراباً، حيث اللغة صلاة، والعاطفة طقس، والحب مقامٌ صوفيّ تفيض منه الرؤى وتتشظّى فيه الذات.

هذه التأملات ليست قراءة تقليدية، بل محاولة للإصغاء إلى نبض القصيدة الخفيّلا لفهمها فقط، بل لمعايشتها، كما يُعاش الضوء، كما يُشمّ النسيم، كما تُلمس الحروف حين تصبح جسداً شفيفاً من الحنين.
ولا بد من إيماءة نحو الشاعر شلال عنوز، الذي ينتمي إلى مدرسة وجدانية ذات نفس صوفيّ حداثيّ، يُجيد فيها تطويع اللغة، لا كأداة للبوح فحسب، بل كمحرابٍ للمعنى. هو شاعر يقيم في العزلة الجمالية، لا ليبتعد، بل ليقترب أكثر من الذات الكونية.

ما الذي يجعل هذه القصيدة تحديداً تقيم في القلب طويلاً بعد قراءتها؟ لعله ذلك الامتزاج النادر بين طهارة التعبير وعنفوان الشوق. فالشاعر لا يكتب قصيدة حب فحسب، بل يبني معبداً لغوياً يصلي فيه للحظة اللقاء، وينثر فيه تراتيل الانتظار.

حين يقول:
"
أذرف ابتهالاتِ نُسكي
على خاصرة الشمس"

كما الحلاج حين قال: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا"، نكون أمام عاشق يرتقي بالعاطفة إلى مقام الطقوس الكونية، حيث تصبح الشمس ذاتها شاهدة على انسكاب روحه، ويصبح البوح طقساً تطهرياً. وكأننا نستعيد نَفَسَ ابن الفارض في حضرةٍ لغويّةٍ عصرية، حيث تتصوّف الحروف ويتناسج العشق مع الروح. هنا تتجاوز الذات الحسية، وتذوب في الكونية، فتصبح المفردة صلاة، والعاشق نبيّ النَدى. الشاعر هنا راهب، لكنه لا يسكن ديراً من حجر، بل ديراً من ياسمين، من أنوثة تتجلّى في كل مفردة، من شوق يقطر ندى.

وما أروع ذلك التوازن الذي يحفظه النص بين الشفافية اللغوية والعمق الرمزي. فهو لا يغرق في الغموض، لكنه أيضاً لا يسلم مفاتيحه مجاناً. لا بد للقارئ أن ينصت جيداً لصوت الندى، ليرى كيف يتحول اللقاء إلى "مهرجان قُبل"، وكيف تتقدّس اللحظة حتى تصبح "عناقًا صوفيًّا".

يتحرك الشاعر بخفة كاهنٍ في معبد الحنين، يشعل فوانيس التوق على "نمارق البوح"، يُرتل "قصائد اخضلال الليلك"، يتلو صلاته الحبلى بالرجاء على "خاصرة الشمس"، ويترك لنا أثراً بلورياً لا يمحى.

لا تبحث القصيدة عن إجابة، بل تكتفي بإشعال الأسئلة داخلنا.
لا تُفسّر الحب، بل تجعلك تعيشه، كأنك تتذوق طعمه في شهقة، وتلمسه في دمعة، وتسمعه في رعشة وترٍ خفي.
هذه ليست قصيدة مكتوبة، بل قصيدة عِيشَة.
كل سطر فيها صمتٌ ينطوي على ضجيج لا يقال.
وكل استعارة تُضيء شيئاً منا نحن، لا من الشاعر فحسب.

هكذا هي "إطلالة النَدى" في قصيدة شلال عنوز:
إطلالة على الذات، على المعنى، على الحنين الذي يسكن الذاكرة ولا يغادرها.
فمن لم يختبر "مواسم شمّ النسيم"، ومن لم يغنِّ "في محفلٍ سرّي"، ومن لم يتصوف في حضرة امرأة، فليقرأ هذه القصيدة
علّ اللغة تعلّمه كيف يكون عاشقاً بلا صوت، وكيف يُغني دون أن يرفع صوته، وكيف يُصلي... بكلمة.

 

أنامل الضوء: قراءة تشكيلية

"إطلالة النَدى" لوحة لا ترسم بالألوان بل بالانفعالات.
نرى الشاعر يرسم تفاصيله بـ"أراجيح الضوء"، بـ"فوانيس التوق"، بـ"نمارق البوح"…
إننا أمام لوحة تنبض بالضوء والدفء الحسي، تتدرج ألوانها من شفق بنفسجي إلى توهج برتقالي، تتراقص فيها خطوط الضوء كما يرقص بندول ولهٍ على ساعة الموعد.
في قلب هذه اللوحة، تقف الأنثى كقطرة ضوء معلقة، لا جسد لها إلا من شفافية الرغبة، كأننا نراها بلمسات شفافة كلوحة مائية من مانيه، أو كأننا نراها بريشة كليمت حين يرسم المرأة كضوء ذهبي يذوب في الحلم. أو كأن جواد سليم خطّ تفاصيلها على وجه الضوء.
أما الشاعر، فهو اللون الثالث في لوحة لا تكتمل إلا بالذوبان.

 

قراءة موسيقية

النص مكتوب بإيقاع خفيّ، لا يخضع لوزن تقليدي، لكنه نابض بنبض داخلي، كأن القصيدة كلها تعزف على مقام الشجن الطويل.
حين يقول:
"
أُغنّيك فجراً..."
نشعر كما لو أن البيات يتسلل من بين الحروف، يهمس لا يعزف، كما لو أن القصيدة نُظمت على نبض العود لا على إيقاع القافية.
هناك ترانيم تتكرر: "أتَصوّفُ"، "أُرتّل"، "أُشعل فوانيس التوق"...
كل تكرار ليس إعادة بل هارمونية تصاعدية،


مشاهدات 51
الكاتب  ناظم ناصر القريشي
أضيف 2025/04/12 - 2:30 PM
آخر تحديث 2025/04/13 - 12:18 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 456 الشهر 12026 الكلي 10592673
الوقت الآن
الأحد 2025/4/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير