الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رفيق الرضي في الجزء الثالث من راعي الذود.. غنائية الحبيبة والوطن


رفيق الرضي في الجزء الثالث من راعي الذود.. غنائية الحبيبة والوطن

أحمد الشيخاوي

 

كيف نقرأ شاعرا غنائيا خبر الحياة بما يكفي كي يسكب عصارة تجربة كاملة ومختمرة، في شريان إبداعه، مثلما عاين اللعبة السياسية المتمكنة خيوطها من عالم عربي ممتد بأكمله، تأمل البعض من أسرار فصولها، من زاويته الخاصة هو، فتوسّم في المنفى الطوعي، وطنا إنسانيا حرّا بلا حدود، ساعده إلى حدّ بعيد، في رسم ملامح مشروعه شعري، أكسبه الذاتية شبه المفقودة، عقب مكابدة اللوعة والانشطار، لزمن ليس بالقصير..؟

إنه وفي نزعته الإبداعية المتفردة والاستثنائية المُعتنية بقاموس مفردات السهل الممتنع، وفي خلق مناخات التوأمة الإيجابية بين الممارستين الشعرية والنبطية، قد استطاع أن يجد لاسمه مكانا في وعي قراء الحداثة الشعرية، لم يزل هذا ديدنه بما يحاول مراكمته وتدشينه من شعرية تحلّق بجناحين سادنة لمعنيين: هواجس العشق وأسئلة الانتماء.

ضمن هذه الورقة النقدية، نستنطق ما وراء ألوان عوالم الجزء الثالث من" راعي الذود" مستأنسين بأجواء الإدهاش الذي قد يتم اجتراحه من قصيدة العامي، نظرا لما تقترحه من آفاق للانزياح والتكثيف والمفارقات من تقنيات ناسجة لفسيفساء الحكمة والجمال، تلبية لاشتراطات تحولات الذهنية والذائقة العربية.

وفي سياحة شعرية شاعرية في حضرة شاعر إشكالي، يأبى في منجزه إلا أن ينتصر للمشترك الإنساني، ويحتفي أيّما احتفاء بالهوية الجامعة التي تتجاوز القواعد وتتحرر من القيود، كونها تستند إلى ثقافة جعل الانسان مركزا، لا هامشا، فهو يقترح بالتالي، حلولا للاغتراب الروحي، عبر عتبات ومتون شعريته الصارخة بدوال الحرية والمواطنة والعشق وسائر ما يوازي ذلك، مما هو والج في المنظومة القيمية التي من شأنها تعزيز الكرامة والحياة الإنسانية.

من بين ما يهدل به شاعرنا، في هذا الإطار، نطالع له الطقس التالي:

{اليمن أرض الحضاره/مجدها للآن حاضر

اليمن أرض الحضاره/والأصاله والمآثر)(1).

يتّضح زخم هذا الإيقاع الملحمي في ترجمته لأحاسيس الوطنية الصادقة، فما بين استحضار مفردتي" اليمن" و" اليماني"، أي المكان/ الوطن وساكنه/ المواطن، شقّ مسافة في اللانهائي، تُستلهم منها الدروس الإنسانية الكبيرة.

حقيقة، لقد أثار انتباهي هنا البيت الشعر الوارد في هذا المقطع، ولا بأس من تكراره، بحيث يقول: (اليماني شب ناره/ فرحته لا جاه زائر)، فيعكس وبكل موضوعية، الكرم اليمني الشاهد بها التاريخ العربي على تعاقب أشواطه.

إنها حقيقة تاريخية، يحاول الشاعر، هنا، تذكيرنا بها فقط، فتحضرني قصة مشوقة معبّرة لخليل الله النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، سأسوق مغزاها على نحو مختصر، قدر الإمكان، وتجنبا للإطالة والإطناب، إذ يُروى أنه كان مضيافا جدا، وسعادته الحقيقة تكمن في أن يفد إليه عابر سبيل أو شخص يُقريه فيكرمه، كان هذا دأبه، وفي يوم  من الأيام انتظر طويلا، دون أن يزوره أحد، فضجر وحزن حزنا شديدا، لحين عسعسة الليل، فإذا به يفاجئ برجل طاعن في السن يطرق باب بيته، فانقلب من حالة اليأس والقنوط إلى الفرح الشديد بزيارة الرجل له، أكرمه نبي الله، كالعادة، ولكن، قبل أن يخلد الرجل إلى النوم، عرّج على نار مشتعلة فراح يمارس طقوسه الوثنية متعبدا متقربا من تلك النار المضطرمة، وبينما هو كذلك، لمحه سيدنا إبراهيم، فصبّ عليه جام غصبه وطرده شرّ طردة، من منزله، وهو لم يفعل ذلك إلا بدافع الغيرة لله وللحنيفية  المتجذرة في أعماقه، التي عرف به، غير أنه تلقى عتابا ربانيا من ربه الكريم، جراء تصرفه، فانطلق مسرعا يقتفي أثر ضيفه الوثني معتذرا منه مستسمحا إياه طالبا منه العودة معه إلى البيت، بيد أن الضيف رفض، بدعوى الهرم والضعف وخور القوة بسبب الشيخوخة وخريف العمر، ولم يعدل عن قراره إلا بُعيد أن أخبره النبي إبراهيم بأن الله عاتبه من فوق سابع سماوات، في الرجل، وأخبره بأن ربه، صبر عليه عقودا ممهلا إياه كي يتوب ويؤوب إلى خالقه، فيخرج من ظلمات الجهل والكفر إلى نور التوحيد، وما أن سمع الضيف العجوز ذلك حتى آمن من فوره.

إنها قصة للعبرة، ولقد عودنا شاعرنا، عبر مسيرته الشعرية، على نظير هذه الانثيالات الزاخرة بصور التناص مع المقدس والموروث والغرائبي والأسطوري، إلى آخر ذلك، مما قد يمنح شعريته طعما قلّ مثيله، وينكّهه بتوابل الشرود النسقي والمروق والتمرد على الحدود النصية والزمكانية، فيبهر بأبدية الصلاحية التعبيرية، في أبهى مدارات الفوقية والتّسامي وكونية الدلالة.

يقول:

{رغم ما بينِي وبينَّك من مودّه/زاد يا ليلي غرامِي فُوق حده

لا ترِد القلب خالي بعد مُدّه/كُلما يرجوه يا ليلى رضاك

اشتكى حاله ومن يهوى وعنده/وانت يا ليلاه يا ونّه ووجده

كم تمنى لو تكُون الآن عِنده/يا مُعنى والدوا سيدِي دواك

يا عنَا حالِي ويا قلبي وبُعده/ضاق قلبي يا مُعذبني وجهده

سَل سِيفه مِن طرف رمشه وغمده/بالحنَايا صاب قلبي ليته اخطاك

يا ملِيح العُود يا سلوى وعُده/لا تعذِّبني وقلبي لا ترده

يا سلا قلبي وأيامَه ووعده/داوي المجرُوح ما صابته يُمناك

الله القادِر على تفرِيج شِده/ما زرَع بالقلب أزهاره وورده}(2).

ويقول أيضا:

{لا تمازِح وانت ثاير وحاد/ولا تعانِد ما يفيد العناد

ابتِسم لو كنت بارٍ وجاد/كيف أوصفه الغزال العنِيد

لو فؤادي يا الغزال استفاد/مِن عنادِك يا حبيبه وحاد

ما تركنِي يا حياته وعاد/ في شبابك وانت عنه بعيد

في العذُوبة تشبهَك شهرزاد/تحرمِينِي راحتِي والرقاد

أنتِ ليلى وانتِ أحلى سُعاد/في غيابِك ما فؤادي سعيد

يا عيُونه ماضيه في الغماد/جمر ما بِين الحنَا والرماد}(3).

في استرسال في التشبب بالمعشوقة، ليلى الأبدية، شهرزادية العذوبة، في استعذاب الجراح التي تسببت بها، فهي تنضاف إلى معاناة جور الانتماء، ضمن مُعجم الرضي المحتمي على الدوام، بسلاح اليقين والأمل، وعدم التفريط بهما، درء لموجبات إقحام روح السلبية والانهزامية، على الرغم من تغلغل الوجع وتسلطه على الغض والهش والنبيل والجميل، وكل ما هو معادل للخيرية الإنسانية في تكوين الذات الشاعرة.

ما أبلغه من قول: يا عيُونه ماضيه في الغماد/ جمر ما بِين الحنَا والرماد.

بهذه المناسبة لا يمكننا تفويت فرصة ذكر هذا البيت للشابي، على نحو ما يختزله من قوة ماهية وفولاذية إرادة، حين تكون الكلمة إجمالا، والشعر خصوصا، أكبر من مجرد ممارسة تعبيرية للترويح عن الذات، أو فرض الحضور، كي تتجاوز كامل ذلك، إلى علياء ما يؤهلها فتغدو تاجا للحياة، أي وضعها فوق الحياة بحدّ ذاتها.

يقول شاعر الأنفة والعظمة والشموخ، أبو القاسم الشابي:

سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ/كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ

أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً/بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ

لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى/مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ

وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً/غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ

أُصْغي لمُوسيقى الحَياةِ وَوَحْيِها/وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي

دائما ما تصطبغ شعرية الرضي، بتلاوين السردية السِّيرذاتية، المُناغية بدوال تشاكل العشق والهوية، على شاكلة مُبهرة حقّا، حتّى ليُوقِع بتفرّد بصمته في هذا الإطار، متلقي منجزه، بل ومشروعه الإبداعي في عمومه، ويقذفه به إلى غياهب الالتباس واللخبطة، فيما يرتبط بحدود هذين المفهومين، وكيف أنّهما يحقّقان طرفي المعادلة الإنسانية في شعرية تتطور، وتنشد الطفرة النوعية، بتؤدة وتوهج حس وتعقّل كبير، بحيث يُغرق الشاعر، في الإسقاط من معطيات ومقومات هذه على تلك، والعكس بالعكس تماما.

كما يقول:

{يا الزِّين عاد الناس للناس/سِر المحبة صدق واحساس

ألعب على قلبي ولا باس/إن كان هذا ما ترِيده

القلب لِه يا ناس والساس/والعِشق لِه شرعة ونوماس

تركت قلبي ارباع واخماس/عِشقك تمكَّن مِن وريده

ما حد ملَك قلبي ولا ساس/قبله ولا جرَه للافلاس

أشتَد بِي من بعده الياس/وهم النهايات السعيده

جرِب هوى غيري إذا ماس/لا نادِمٍ بعدك ولا أس

اسقِيتني مِن كاس جساس/ما كان قصدِي له تعيده

جرحتينِي جرح الهوى قاس/حسرَه سببها اللُول والماس (4).

إنها كتابة الجرح، على حدّ تعبير صاحب الديوان، رفيق الرضي، ليس فقط في مستوى الحِلمية، بل بما يتخطى ذلك ويتعدّاهُ إلى الوهم المُنرسمة له ملامح الشعرية الصافية في استدعائها المخاتل، لمعنيين جوهريين، بتواز تام ومتناغم: الأنوثة والانتماء.

ختاما يمكنا القول إن رفيق الرضي، استطاع تقديم غنائيته هذه، على نحو مربك، ينمّ عن دربة وتمكنن من آليات الاشتغال.

هامش:

(1)مقتطف من قصيدة" الحضارة"، الصفحة7، ديوان" راعي الذود"، الجزء الثالث.

(2)مقتطف من قصيدة" فُوق حده"، الصفحة181، ديوان" راعي الذود"، الجزء الثالث.

(3)مقتطف من قصيدة" من دموعي مداد"، الصفحة218، ديوان" راعي الذود"، الجزء الثالث.

(4)مقتطف من قصيدة" جرحي كتبته"، الصفحة263، ديوان" راعي الذود"، الجزء الثالث.

 

شاعر وناقد من المغرب


مشاهدات 96
الكاتب أحمد الشيخاوي
أضيف 2025/04/19 - 2:26 PM
آخر تحديث 2025/04/20 - 6:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 294 الشهر 20220 الكلي 10900867
الوقت الآن
الأحد 2025/4/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير