صعود الأسد… حين تتحوّل النبوءة إلى مشروع عسكري
قراءة في رمزية التوراة وصمت الفهم العربي
أسامة أبو شعير
في خضم التصعيد المتجدد بين إسرائيل وإيران، لفت اسم العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة الأنظار: “صعود الأسد”. وقد يبدو الاسم للوهلة الأولى مجرد تعبير مجازي عن القوة، أو اختيار دعائي محض، لكن المفكر يوسف زيدان أشار إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، حين كشف عن جذور توراتية رمزية لهذا الاسم، قائلاً إن التسمية مستمدّة من نصوص دينية قديمة تشكّل جزءًا من البنية التأسيسية للعقل السياسي الصهيوني.
نبوءة “صعود الأسد” في التوراة
في سفر التكوين (الإصحاح 49)، ينطق النبي يعقوب بكلمات تظل تتردد في وجدان العقيدة اليهودية حتى اليوم، وهو يخاطب ابنه يهوذا:
“يهوذا، جرو أسد… من الفريسة صعدت يا ابني… جثا وربض كأسد ولبؤة، فمن ينهضه؟… لا يزول الصولجان من يهوذا.”
هذا المقطع لا يُقرأ اليوم فقط بوصفه نصًا دينيًا، بل يُستدعى كمكوّن من مكونات العقيدة القومية الإسرائيلية، حيث يُبشّر بقيام كيان قوي من نسل يهوذا، يسود أعداءه ويحقق الهيمنة. وعليه، تتحول تسمية “صعود الأسد” من مجرد عنوان عسكري إلى استحضار رمزي لمسار مقدّس، يمنح العمليات العسكرية بعدًا نبوئيًا ومسوغًا لاهوتيًا.
اللغة كسلاح: حين تتحول النصوص إلى ذخيرة
إسرائيل ليست جديدة على هذا النوع من الرمزية. منذ نشأتها، استخدمت أسماء عملياتها كأدوات لصياغة المعنى السياسي والروحي. من “السيف الحديدي” إلى “عمود السحاب”، كل تسمية تحمل دلالة لاهوتية، وتُخاطب الجنود والجمهور برسائل تتجاوز السياسة إلى العقيدة.
هذه التسمية المدروسة لا تقتصر على رفع المعنويات، بل تؤسس لشرعية مزدوجة: روحية وسياسية، تجعل من كل معركة حلقة في سلسلة قدرية مفترضة.
الغياب العربي: صمت معرفي لا صمت سياسي فقط
في المقابل، لا يبدو أن العالم العربي قد التفت جديًا إلى هذه الأبعاد. فالنقاشات الإعلامية والسياسية قلّما تتناول الخلفيات الرمزية للنصوص التي يستند إليها الخصم. لا مراكز بحثية متخصصة في هذا المجال، ولا نقاش ثقافي واسع يدرك أثر “المخيال المقدّس” في صياغة القرار الإسرائيلي.
وقد لخّص يوسف زيدان هذا الغياب المعرفي حين قال ساخرًا: “أكثر الناس في بلادنا لا يقرأون، وإن قرأوا، لا يفهمون ما هو مكتوب.”
ما بعد الضربة: صراع يتحرّك من الجو إلى العمق
هذا الأسبوع شهد تحولًا لافتًا في طبيعة الصراع. إسرائيل، التي بدأت عمليتها بغارات جوية خاطفة، وسّعت أهدافها لتشمل إمكانية إرسال قوات خاصة لضرب منشآت نووية إيرانية تحت الأرض، وتحديدًا منشأة “فوردو” المحصنة على عمق 300 قدم داخل جبل.
في المقابل، ردت إيران بقصف هو الأشد منذ سنوات، استهدف مدنًا إسرائيلية كبرى بأكثر من 350 صاروخًا وطائرة مسيّرة، وأسفر عن عشرات القتلى والجرحى، بل طال مباني مدنية ومواقع حساسة، من بينها محيط السفارة الأميركية في تل أبيب.
والأخطر أن طهران أصدرت تحذيرات بإخلاء أحياء مدنية في طهران تحسّبًا لضربات إسرائيلية مرتقبة، ما يُنذر بأن الحرب باتت تمسّ البنية السكانية لا العسكرية فقط.
هذه المواجهة المتسارعة، خارج سياق الوكلاء التقليديين، تشير إلى دخول الطرفين في مرحلة مواجهة مباشرة مفتوحة، تتقاطع فيها النبوءات مع الحسابات العسكرية اليومية.
من الفريسة صعدت: نبوءة تُصاغ كخطة
هنا يطرح سؤال حتمي نفسه: هل نحن أمام عملية عسكرية عادية، أم أن إسرائيل تعمل وفق مسار نبوئي يُترجم حرفيًا في الميدان؟
في كلتا الحالتين، يبدو أن الإسرائيليين يدركون أن اللغة ليست هامشًا بل جوهر المعركة. فالاسم يسبق الضربة، ويؤسس لها، ويمنحها شرعية في عيون الداخل، ورسالة واضحة للخارج.
العرب خارج معركة الرموز
وسط هذا المشهد، يتأكد مجددًا أن العرب ما زالوا بعيدين عن خوض “معركة المعنى”. لا قراءة منهجية لنصوص الخصم، ولا محاولة لفهم كيفية توظيفها في بناء وعي جماهيري أو مشروع سياسي.
إن تجاهل هذه الأبعاد لا يُبقي العرب في موقع رد الفعل فحسب، بل يضعهم خارج السياق تمامًا، كما لو أن الصراع لا يدار بلغتين مختلفتين فحسب، بل برؤيتين للعالم لا تلتقيان.
ما العمل؟
إذا أردنا ألا نبقى أسرى المفاجأة، علينا أن نبني أدواتنا المعرفية أولاً. وهنا بعض الخطوات الأولية:
1. إنشاء مراكز بحثية متخصصة في تحليل الخطاب الديني–السياسي الإسرائيلي.
2. إعادة تأهيل النخب الثقافية والإعلامية لفهم الرمزية كجزء من أدوات الصراع.
3. الفصل بين “القداسة” و”المعرفة” في قراءة النصوص، دون الوقوع في التبجيل أو الازدراء.
4. إنتاج رموز عربية مستقلة تعبر عن الذات الحضارية ولا تكتفي بردود أفعال على رموز الآخرين.
خاتمة: في حضرة النصّ… يغيب الفهم
ليست “صعود الأسد” ضربة عابرة، ولا مجرّد عنوان لعملية عسكرية. إنها لحظة رمزية كثيفة، تفتح كتبًا مغلقة، وتحرّك نبوءات كانت نائمة في الظلال. إنها ضربة في الجغرافيا، لكنها محفورة في الذاكرة اللاهوتية، محمّلة بما هو أعمق من حسابات الردع والتكتيك.
أما نحن، فغالبًا ما نكتفي بتتبّع الدخان… دون أن نرى النار التي تشتعل في النص.
نقاوم بالسلاح، لكننا لا نقاوم بالمعنى. نردّ على الطائرات، لكننا لا نردّ على السردية. نقف على الحدود، بينما خريطة المعركة الحقيقية تُرسم في المخيال، في الكتب، في الرمز… وفي الأسماء.
العدو يقرأ تاريخه كنبوءة، ويخوض حروبه كترجمة، فيما نواصل نحن العيش بين النسيان والانفعال.
وحين تغيب القراءة، يغيب الفهم. وحين يغيب الفهم، تصبح كل مقاومة شكلاً من أشكال التكرار.