اليّد في القرآن الكريم والأدب العربي
هي كفّك ليلة أمسكت كفّي فجفّلتني
أحمد كاظم نصيف
البلاغة التي خلفها القرآن الكريم لا تتسم بالغزارة الغزيرة فحسب، وإنما بهذا التنّوع المتنِّوع، وقد جاوزت البحث الأدبي رغم كل ما كتب، ولم يصل إليها إلّا قليلا: {وفوْق كُلِّ ذِي عِلْمٍ علِيمٌ} سورة يوسف: آية (76)، ولقد فرض القرآن الكريم الكريم على دارسي البيان اللغوي العربي تقديم دراسات كثيرة ومطولة لتبيان سرِّ اعجازه، فكانت هذه الدراسات تقترب حيناً، وتبتعد آخر، وكان نصيبها من الموضوعية الذاتية لمعاني القرآن قاصراً: {وما أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلّا قلِيلًا} سورة الاسراء: آية (85).
وبالرغم من أنّ لغة القرآن الكريم هي لغة عربية: {إِنّا أنزلْناهُ قُرْآنًا عربِيًّا} سورة يوسف: آية (2)، وأن جهاز النطق الانساني أداة موسيقية وافية، لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية، كونها انتفعت بجميع المخارج الصوتية في تقسيم حروفها، ولم تهمل بعضها وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة والتثقيل تارة، كما فعل المتكلمون بسائر اللغات المعروفة؛ وكذلك فأن من خصائص اللغة العربية البليغة في تعبيراتها أن الكلمة الواحدة تحتفظ بدلالتها المجازية العلمية والواقعية في وقت واحد بغير لبس بين التعبيرين، والمجاز هو الأداة الكبرى من أدوات التعبير اللغوي، لأنه تشبيهات وأخيلة وصور واستعارات واشارات ترمز إلى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة، بيد أن اللغة العربية لا تسمى بلغة المجاز لكثرة التعبيرات المجازية فيها، لأن هذه التعبيرات قد تكثر في لغات عديدة من لغات الحضارة، وإنما تسمى اللغة العربية بلغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى حدود المعاني المجردة، وبعد هذا كله، يبقى القرآن الكريم سيد البلاغة.
واليد من أعضاء الجسد، ووردت: {فامْسحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ} سورة المائدة: آية (6)، بمعن العضو الجسدي، وجاءت: {فلمّا رأيْنهُ أكْبرْنهُ وقطّعْن أيْدِيهُنّ وقُلْن حاش لِلّهِ ما هذا بشرًا إِنْ هذا إِلّا ملكٌ كرِيمٌ} سورة يوسف: آية (31)، بمعنى الاكبار والاعظام وهو كناية عن اندهاشهن وغيبتهن عن شعورهن.
وأكثر ما تستعمل اليّد في النِّعم والاحسان والصنيعة، لا في الأعضاء.
وفي هذا المعنى يقول الشريف المرتضى:
إنّ أيديهم في الناس ما خلقت
إلّا لبذل الأيادي والعطيات.
ويقول الأعشى:
فلن أذكر النعمان إلّا بصالح
فإنّ له عندي يدياً وأنعما.
وجاءت بمعنى الأمر والارادة والتصرف: {ولِسُليْمان الرِّيح غُدُوُّها شهْرٌ ورواحُها شهْرٌ وأسلْنا لهُ عيْن الْقِطْرِ ومِن الْجِنِّ منْ يعْملُ بيْن يديْهِ بِإِذْنِ ربِّهِ ومنْ يزِغْ مِنْهُمْ عنْ أمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عذابِ السّعِيرِ} سورة سبأ: آية (12).
وقالت الخنساء:
ألا ليْت أُمي لم تلدني سويّةٌ
وكُنتُ تُراباً بين أيدي القوابلِ.
ووردت كناية عن صفة الأخذ والاكتساب: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا ليبْلُونّكُمُ اللّهُ بِشيْءٍ مِن الصّيْدِ تنالُهُ أيْدِيكُمْ ورِماحُكُمْ لِيعْلم اللّهُ منْ يخافُهُ بِالْغيْبِ ۚ فمنِ اعْتدى بعْد ذلِك فلهُ عذابٌ ألِيمٌ} سورة المائدة: آية (94).
يقول ابن الرومي راثياً صديقه محمد بن نصر:
ذهب الذي نالت يداه من العلا
ما لا يناله من المديح مقالُ.
وفي تشهدُ أيديهم قال تعالى: {يوْم تشْهدُ عليْهِمْ ألْسِنتُهُمْ وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُم بِما كانُوا يعْملُون} سورة النور: آية (24).
وفي هذا المعنى قال أبو الطيب المتنبي:
وصنِ الحسام ولا تذلهُ فإنهُ
يشكو يمينك والجماجمُ تشهدُ.
أمّا كناية عن التعامل بما قدمت أيديهم وما جنت، فقد كانت في قوله تعالى: {ولن يتمنّوْهُ أبدًا بِما قدّمتْ أيْدِيهِمْ واللّهُ علِيمٌ بِالظّالِمِين} سورة البقرة: آية (95).
يقول محمود سامي البارودي في هذا المعنى:
فلْينظر المرءُ فيما قدّمتْ يدهُ
قبل المعاد فإن العُمر لم يدُم.
وكناية عن شدة النّدم وردت في قوله عزّ وجلّ: {ولمّا سُقِط فِي أيْدِيهِمْ ورأوْا أنّهُمْ قدْ ضلُّوا قالُوا لئِن لّمْ يرْحمْنا ربُّنا ويغْفِرْ لنا لنكُوننّ مِن الْخاسِرِين} سورة الأعراف: آية (149)، بمعنى القلوب والأنفس، تشبيهاً لما يحصل في القلب أو النفس.
وبمعنى الغيظ والحسرة والنّدم كنايةً جاءت في قوله تعالى: {ويوْم يعضُّ الظّالِمُ على يديْهِ يقُولُ يا ليْتنِي اتّخذْتُ مع الرّسُولِ سبِيلًا} سورة الفرقان: آية (27)، عض اليدين وأكل البنان كناية عن الغيظ والحسرة.
وفي هذا المعنى قال ابن المعتز:
ما في يدي منهُ غير عض يدي
ورُبّ بختٍ في الحُبّ منحوس.
ووردت كناية عن التيقن والمعاينة لرفع الارتياب وزوال الشك في قوله تعالى: {ولوْ نزّلْنا عليْك كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فلمسُوهُ بِأيْدِيهِمْ لقال الّذِين كفرُوا إِنْ هذا إِلّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} سورة الأنعام: آية (7).
وفي هذا المنعى يقول عبد الرزاق عبد الواحد:
مرّة ًكنتُ طفلا ً،
وأمسكتُ كفّ أبي
فارتجفْتُ لِفرْطِ الأخاديدِ فيها
وسحبْتُ يدي
قال : يا ولدي
أتمنّى لِكفِّك أنّ الجِراحاتِ لا تعتريها
ومضى ، ومضيتْ ..
................................
نِصْفُ حيٍّ أنا ، وأبي نِصْفُ ميْتْ
يوم أمسك كفّي للمرّة ِالثّانيه
كنتُ ألمحُ نظرته ُالحانيه
وهو يسألُني :
أو مازلت تُجْفِلُ مِن لمْس ِكفّي ؟؟
مُجْبرٌ أن أ ُقفّي
مُجْبرٌ أن أقول له ُالآن
يا أبتي
هبْ دمي أن يُصفّي
بعض أوجاعِه ِ..
هبْ يدي أن تُلامس مِبْضعها
دون هذا التّشفّي !
وأبي كان يبكي
كنتُ أعلمُ أنّ أبي كان يبكي
وهو ينظرُ نحو يدي
بين خوفٍ وشكِّ ..
...............................
هي كفُّك ليلة أمسكت كفّي فجفّلتني
أنت قبّلْتني
غير أنّك ما قلت لي إنّ كفّي ستُصْبحُ كفّكْ
أنّني سيحفُّ بي الموتُ حفّكْ
ربّما الحزنُ شفّكْ
ربّما وجعُ القلب
لم تستطِعْ معه ُأن تقول لِطِفلِك عند الفراقْ
أنّ راحته ُسوف تغدو ككفِّك
خارطة ً لجراح ِالعراقْ !