من قال أن هذا العالم مليء بالتفاهة أو الخوف أو البطولة وأنه محشو بالعدم بالخواء، هذا العالم متخم بالقصص، قصص قصص قصص، قصص نقرؤها وأخرى نسمعها أو نتناسها، لكن أهم القصص تلك التي لا نستطيع روايتها، فنحتفظ بها في أعماقنا السحيقة، لعلها تنبجس مرة في الأحلام أو الكوابيس أو في لحظات الموت أو اللاوعي أو الهلوسة. كل واحد منا هو أرخبيل صاخب من القصص، وما نحكيه أو نقصه عن أنفسنا ما هو إلا دفاعات للحفاظ أو إخفاء تلك القصص في قاع الأرخبيل، في ذواتنا المبهمة القصية.
كانت القصص تأتي أو تصنع وتكتب من الأسفل وهذه غوايتها وهذا سر جمالها، تأتي من الشعوب والأفراد المهمشين، يكتبها المنسيون وغير المعترف بهم والمسجونون والموتى والبكم والصم والعميان والمجذومون والمجذوبون. أما حكايات الفوق فهي قصص الدوائر الغامضة، دوائر السلطة وما يسمى بالدولة العميقة وما أكثرها بل وما أعمقها، مثل قصص المتغيرات والتغييرات في سوريا ولبنان وما حولهما وغزة ليست بعيدة وليست هي البداية بالطبع ولن تكون النهاية، وإن كنت أكتب اليوم بهدف الابتعاد عن هذا الملف الذي لن تغير كل قصصنا نهايته أو تجرف مسار حوادثه، الدامية والعنيفة للأسف.
عندما حملت حقيبتي للسفر صوب بيروت عام 1975، لم تكن تلك الحقيبة تحوي غير ثلاثة أشياء، شيئان من صنع يدي أمي، كيس ( كليجه) تعمدت الإبقاء عليه ما استطعت، والآخر، عدد من الملابس الداخلية التي كانت تخيطه بيديها من تلك الملابس الداخلية التي أحرص على عدم لبس غيرها وقد يكون هذا دليلا على الاعتلال والحصانة النفسيتين في نفس الوقت، أما الثالث فهو كتاب وحيد اخترته ليكون أنيس وحدتي ورحلتي. كان الكتاب هو ( ويكون التجاوز ) للكاتب العراقي( محمد الجزائري )، وحكاية هذا الكتاب هي قصة هذا اليوم، من قاموس أو سفر المجهولين.
يقصد الجزائري بالتجاوز هو تجاوز الشاعر (المثقف عموما ) للأنماط والأساليب والمواضيع السائدة والتقليدية وهو على كل حال يفتتح كتابه بمقولة ماركس( الإنسان هو ما يتجاوز) ويرفقها بمقولة شهيرة لفولتير( الإنسان. إنما هو الأسلوب).
كنت قبلها ورغم سنين عمري المعدودة، كنت قد كونت مفهوما لنفسي، بصراحة يقود ويهدي قراءاتي وحتى حياتي وبالتالي تمردي، هذا المفهوم يقضي بأن التجاوز يكون عبر واحد من اثنين أو اثنتين، الموت أو الثورة وزعمت لنفسي بأن كل الأدب المهم يندرج تحت واحدة من الثيمتين، الثورة أو الموت والواحدة تؤدي للأخرى أو تعوض عنها ولعل في قصة جيفارا ما يلخص ثنائية الثورة، والموت وافتراقهما ولقاءهما. اليوم أجدني وأجد مفهوم التجاوز بالثورة أو الموت مازال فاعلا، الحقيقة قرأت (مثلا) رباعية كارلوس زافون (مقبرة الكتب المنسية ) وفقه كما أن سيرة أهم شخصين أو شخصيتين رافقاني يومذاك ( رياض البكري وليون تروتسكي )، يمكن فهمهما أفضل وبعمق من خلال التجاوز عبر الثورة والموت.
صراحة، لم أكن يومها قد وقعت أو قرأت عن مفهوم (القطيعة) ولا أدري إن كانت هي فعلا أحدث من مفهوم التجاوز وميقاته وقتذاك، القطيعة بمعنييها، القطيعة المعرفية والقطيعة الثورية.
بالطبع لم أعد بكتابي( ويكون التجاوز ) عند رجوعي لبغداد لأمر نسيته، رغم أني اصطحبت معي عائدا حقيبة كاملة من الكتب كلفتني تحقيقا ومبيتا ليوم واحد في أمن المطار، وقد عدت لاقتنائه أكثر من مرة وخسارته كذلك أكثر من مرة بسبب تقلب أحوالي حتى نسيته أو كدت وظل مكانه في مكتبتي شاغرا وكذلك ذكره إلى حد ما، ولما تذكرته قبل سنوات، ربما عندما سمعت عن موت محمد الجزائري في بلجيكا فأخذت محموما بالبحث عنه عبثا، بالطبع لم أصل للآن قصتي، فهي ليست قصة الكتاب، حتى عثرت عليه مصادفة في تلك المحلات قرب الميدان التي تبيع الكتب على الأرصفة فقمت بشرائه فورا وكان بحالة جيدة. الكتاب من إصدار وزارة الإعلام عام 1974 وعلى ما يبدو بأني اقتنيته فور صدوره وقراءته. لكن نسخة الكتاب الذي حصلت عليه في الميدان يحمل أو يبتدئ بتوقيع مالكه الأصلي صفاء الزبيدي
وهذا يعني أننا (أنا وصفاء ) قمنا بشرائه وقراءته في نفس الوقت وفقدنا نسختينا في زمنين ومكانين ولسببين مختلفين، أين يكون هذا الصفاء اليوم، هل مازال حيا وهل سيقرأ كلماتي…وتلك هي القصة.