الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
القصص‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬نرويها

بواسطة azzaman

القصص‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬نرويها

كامل عبدالرحيم

‭  ‬

من‭ ‬قال‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬مليء‭ ‬بالتفاهة‭ ‬أو‭ ‬الخوف‭ ‬أو‭ ‬البطولة‭ ‬وأنه‭ ‬محشو‭ ‬بالعدم‭ ‬بالخواء،‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬متخم‭ ‬بالقصص،‭ ‬قصص‭ ‬قصص‭ ‬قصص،‭ ‬قصص‭ ‬نقرؤها‭ ‬وأخرى‭ ‬نسمعها‭ ‬أو‭ ‬نتناسها،‭ ‬لكن‭ ‬أهم‭ ‬القصص‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬روايتها،‭ ‬فنحتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬أعماقنا‭ ‬السحيقة،‭ ‬لعلها‭ ‬تنبجس‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الأحلام‭ ‬أو‭ ‬الكوابيس‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬اللاوعي‭ ‬أو‭ ‬الهلوسة‭. ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬هو‭ ‬أرخبيل‭ ‬صاخب‭ ‬من‭ ‬القصص،‭ ‬وما‭ ‬نحكيه‭ ‬أو‭ ‬نقصه‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬دفاعات‭ ‬للحفاظ‭ ‬أو‭ ‬إخفاء‭ ‬تلك‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬الأرخبيل،‭ ‬في‭ ‬ذواتنا‭ ‬المبهمة‭ ‬القصية‭.‬

كانت‭ ‬القصص‭ ‬تأتي‭ ‬أو‭ ‬تصنع‭ ‬وتكتب‭ ‬من‭ ‬الأسفل‭ ‬وهذه‭ ‬غوايتها‭ ‬وهذا‭ ‬سر‭ ‬جمالها،‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬والأفراد‭ ‬المهمشين،‭ ‬يكتبها‭ ‬المنسيون‭ ‬وغير‭ ‬المعترف‭ ‬بهم‭ ‬والمسجونون‭ ‬والموتى‭ ‬والبكم‭ ‬والصم‭ ‬والعميان‭ ‬والمجذومون‭ ‬والمجذوبون‭. ‬أما‭ ‬حكايات‭ ‬الفوق‭ ‬فهي‭ ‬قصص‭ ‬الدوائر‭ ‬الغامضة،‭ ‬دوائر‭ ‬السلطة‭ ‬وما‭ ‬يسمى‭ ‬بالدولة‭ ‬العميقة‭ ‬وما‭ ‬أكثرها‭ ‬بل‭ ‬وما‭ ‬أعمقها،‭ ‬مثل‭ ‬قصص‭ ‬المتغيرات‭ ‬والتغييرات‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان‭ ‬وما‭ ‬حولهما‭ ‬وغزة‭ ‬ليست‭ ‬بعيدة‭ ‬وليست‭ ‬هي‭ ‬البداية‭ ‬بالطبع‭ ‬ولن‭ ‬تكون‭ ‬النهاية،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬اليوم‭ ‬بهدف‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬تغير‭ ‬كل‭ ‬قصصنا‭ ‬نهايته‭ ‬أو‭ ‬تجرف‭ ‬مسار‭ ‬حوادثه،‭ ‬الدامية‭ ‬والعنيفة‭ ‬للأسف‭.‬

عندما‭ ‬حملت‭ ‬حقيبتي‭ ‬للسفر‭ ‬صوب‭ ‬بيروت‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الحقيبة‭ ‬تحوي‭ ‬غير‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشياء،‭ ‬شيئان‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬يدي‭ ‬أمي،‭ ‬كيس‭ ( ‬كليجه‭) ‬تعمدت‭ ‬الإبقاء‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬استطعت،‭ ‬والآخر،‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الملابس‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تخيطه‭ ‬بيديها‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الملابس‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬لبس‭ ‬غيرها‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬الاعتلال‭ ‬والحصانة‭ ‬النفسيتين‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت،‭ ‬أما‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬وحيد‭ ‬اخترته‭ ‬ليكون‭ ‬أنيس‭ ‬وحدتي‭ ‬ورحلتي‭. ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ( ‬ويكون‭ ‬التجاوز‭ ) ‬للكاتب‭ ‬العراقي‭( ‬محمد‭ ‬الجزائري‭ )‬،‭ ‬وحكاية‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬هذا‭ ‬اليوم،‭ ‬من‭ ‬قاموس‭ ‬أو‭ ‬سفر‭ ‬المجهولين‭.‬

يقصد‭ ‬الجزائري‭ ‬بالتجاوز‭ ‬هو‭ ‬تجاوز‭ ‬الشاعر‭ (‬المثقف‭ ‬عموما‭ ) ‬للأنماط‭ ‬والأساليب‭ ‬والمواضيع‭ ‬السائدة‭ ‬والتقليدية‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬يفتتح‭ ‬كتابه‭ ‬بمقولة‭ ‬ماركس‭( ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يتجاوز‭) ‬ويرفقها‭ ‬بمقولة‭ ‬شهيرة‭ ‬لفولتير‭( ‬الإنسان‭. ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الأسلوب‭).‬

كنت‭ ‬قبلها‭ ‬ورغم‭ ‬سنين‭ ‬عمري‭ ‬المعدودة،‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬كونت‭ ‬مفهوما‭ ‬لنفسي،‭ ‬بصراحة‭ ‬يقود‭ ‬ويهدي‭ ‬قراءاتي‭ ‬وحتى‭ ‬حياتي‭ ‬وبالتالي‭ ‬تمردي،‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬يقضي‭ ‬بأن‭ ‬التجاوز‭ ‬يكون‭ ‬عبر‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬اثنين‭ ‬أو‭ ‬اثنتين،‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬الثورة‭ ‬وزعمت‭ ‬لنفسي‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬الأدب‭ ‬المهم‭ ‬يندرج‭ ‬تحت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الثيمتين،‭ ‬الثورة‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬والواحدة‭ ‬تؤدي‭ ‬للأخرى‭ ‬أو‭ ‬تعوض‭ ‬عنها‭ ‬ولعل‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬جيفارا‭ ‬ما‭ ‬يلخص‭ ‬ثنائية‭ ‬الثورة،‭ ‬والموت‭ ‬وافتراقهما‭ ‬ولقاءهما‭. ‬اليوم‭ ‬أجدني‭ ‬وأجد‭ ‬مفهوم‭ ‬التجاوز‭ ‬بالثورة‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬مازال‭ ‬فاعلا،‭ ‬الحقيقة‭ ‬قرأت‭ (‬مثلا‭) ‬رباعية‭ ‬كارلوس‭ ‬زافون‭ (‬مقبرة‭ ‬الكتب‭ ‬المنسية‭ ) ‬وفقه‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬سيرة‭ ‬أهم‭ ‬شخصين‭ ‬أو‭ ‬شخصيتين‭ ‬رافقاني‭ ‬يومذاك‭ ( ‬رياض‭ ‬البكري‭ ‬وليون‭ ‬تروتسكي‭ )‬،‭ ‬يمكن‭ ‬فهمهما‭ ‬أفضل‭ ‬وبعمق‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التجاوز‭ ‬عبر‭ ‬الثورة‭ ‬والموت‭.‬

صراحة،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬يومها‭ ‬قد‭ ‬وقعت‭ ‬أو‭ ‬قرأت‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ (‬القطيعة‭) ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬فعلا‭ ‬أحدث‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬التجاوز‭ ‬وميقاته‭ ‬وقتذاك،‭ ‬القطيعة‭ ‬بمعنييها،‭ ‬القطيعة‭ ‬المعرفية‭ ‬والقطيعة‭ ‬الثورية‭.‬

بالطبع‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬بكتابي‭( ‬ويكون‭ ‬التجاوز‭ ) ‬عند‭ ‬رجوعي‭ ‬لبغداد‭ ‬لأمر‭ ‬نسيته،‭ ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬اصطحبت‭ ‬معي‭ ‬عائدا‭ ‬حقيبة‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬كلفتني‭ ‬تحقيقا‭ ‬ومبيتا‭ ‬ليوم‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬أمن‭ ‬المطار،‭ ‬وقد‭ ‬عدت‭ ‬لاقتنائه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬وخسارته‭ ‬كذلك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬بسبب‭ ‬تقلب‭ ‬أحوالي‭ ‬حتى‭ ‬نسيته‭ ‬أو‭ ‬كدت‭ ‬وظل‭ ‬مكانه‭ ‬في‭ ‬مكتبتي‭ ‬شاغرا‭ ‬وكذلك‭ ‬ذكره‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬ولما‭ ‬تذكرته‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬ربما‭ ‬عندما‭ ‬سمعت‭ ‬عن‭ ‬موت‭ ‬محمد‭ ‬الجزائري‭ ‬في‭ ‬بلجيكا‭ ‬فأخذت‭ ‬محموما‭ ‬بالبحث‭ ‬عنه‭ ‬عبثا،‭ ‬بالطبع‭ ‬لم‭ ‬أصل‭ ‬للآن‭ ‬قصتي،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬قصة‭ ‬الكتاب،‭ ‬حتى‭ ‬عثرت‭ ‬عليه‭ ‬مصادفة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المحلات‭ ‬قرب‭ ‬الميدان‭ ‬التي‭ ‬تبيع‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬الأرصفة‭ ‬فقمت‭ ‬بشرائه‭ ‬فورا‭ ‬وكان‭ ‬بحالة‭ ‬جيدة‭. ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬إصدار‭ ‬وزارة‭ ‬الإعلام‭ ‬عام‭ ‬1974‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬بأني‭ ‬اقتنيته‭ ‬فور‭ ‬صدوره‭ ‬وقراءته‭. ‬لكن‭ ‬نسخة‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬حصلت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬يحمل‭ ‬أو‭ ‬يبتدئ‭ ‬بتوقيع‭ ‬مالكه‭ ‬الأصلي‭ ‬صفاء‭ ‬الزبيدي‭  ‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ (‬أنا‭ ‬وصفاء‭ ) ‬قمنا‭ ‬بشرائه‭ ‬وقراءته‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬وفقدنا‭ ‬نسختينا‭ ‬في‭ ‬زمنين‭ ‬ومكانين‭ ‬ولسببين‭ ‬مختلفين،‭ ‬أين‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الصفاء‭ ‬اليوم،‭ ‬هل‭ ‬مازال‭ ‬حيا‭ ‬وهل‭ ‬سيقرأ‭ ‬كلماتي‭…‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬القصة‭.‬


مشاهدات 120
الكاتب كامل عبدالرحيم
أضيف 2025/03/29 - 12:43 AM
آخر تحديث 2025/04/02 - 8:02 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 512 الشهر 1242 الكلي 10581889
الوقت الآن
الأربعاء 2025/4/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير