حينما تغير النظام السياسي في العراق عام 2003 من حكم الحزب الواحد، إلى التعددية الحزبية، وحل اقتصاد السوق بدلاً عن مؤسسات القطاع العام، شعر الكثيرون أن عصراً جديداً قد ابتدأ للتو، وأن آفاقاً واسعة للتغيير قد شرعت أبوابها للعالمين.
لقد انهار المفهوم الذي طالما رددته الألسن لوقت طويل، وهو الاشتراكية، ولم يعد يذكره أحد بخير أو شر على الإطلاق، حتى أولئك الذين اعتنقوه وضحوا من أجله نسوه تماماً، وباتوا أقرب إلى تبني الرأسمالية في خطبهم النارية وقت الأزمات، من أي شيء آخر.
ومن الغريب أن بعض أصحاب الثروة بدأوا يتطلعون بشكل مبكر إلى السلطة عبر وسائل غير مشروعة، وأخذوا يلجئون إلى شراء الذمم، وإثارة النزعات الطائفية والمناطقية، أملاً في الحصول على مقعد في البرلمان، أو منصب في الحكومة.
ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنهم ضلوا الطريق، وأخطأوا التقدير. ، ذلك أن السلطة في النظام الرأسمالي هي التي تسعى إلى رجال الأعمال، وهي التي تتودد إليهم، وليس العكس، وأن السبيل الأمثل لاعتلاء المناصب، أو الإمساك بزمام الحكم، هو بناء الشركات، وإنشاء المصانع، وممارسة النشاط التجاري الخاص. فالمشاريع الكبيرة، التي تحوز على النجاح، تقدم خدمة عظيمة للبلاد والعباد، وتقوم بتشغيل أعداد غير يسيرة من الأفراد، وتعمل على اتساع نفوذ أصحابها في المجتمع والدولة، ليكونوا مؤهلين بالتالي للحصول على أعداد كبيرة من أصوات الناخبين والداعمين.
إن زعماء الدول المتقدمة هم في العادة أصحاب شركات عملاقة، وليسوا أفراداً عاديين، بل إن بعض بلدان العالم الثالث بدأت بتقليد النموذج الغربي هذا، فالناس يتحلقون حول الأغنياء، ويعجبون بتجاربهم الناجحة، في حين يناصبهم الاشتراكيون العداء، ويرون أن مكانهم الحقيقي هو خارج السلطة.
وفي بلدان كثيرة تتميز الأقليات بالثراء، وامتلاك العقارات والمصارف والمصانع، للتعويض عما تعانيه من ضعف، فليس العدد الكبير وحده من يصنع القرار، وليست الأغلبية هي التي تحكم،بل يمكن لرجال أعمال قليلين، أو فئات صغيرة، القيام بهذا الدور كاملاً، وأبرز الأمثلة على هذا النهج اليهود في أوربا وأميركا، والسيخ والخوجة في الهند!.
لكن الأمر في العراق معكوس تماماً، فحالما يحصل المرء على قليل من المال، بطرق مشروعة أو غير مشروعة، حتى تتجه أنظاره إلى السلطة، ويشرع بتفريق الرشاوى والعمولات للوصول إلى دفة الحكم، ويقوم بمغازلة مراكز القوى من أجل الظفر بالرئاسة أو الوزارة أو كرسي النيابة.
إن هؤلاء لا يعلمون أن تطوير مبادراتهم الفردية يضمن لهم دوراً أكبر في مستقبل البلاد، ويجعل المناصب تجثو طائعة أمامهم، ولا يحتاجون إلى الدعاية أو بذل الأموال للوصول إلى ما يرغبون فيه من الانتشار، مثلما يفعل السياسيون في العادة، بل إن شهرتهم كرجال أعمال كبار تجعل الطريق معبدة أمامهم، وهم لا يستغلون الناس أو يضطهدونهم أو يمتصون دماءهم، كما تزعم الأدبيات اليسارية، بل يصنعون الحضارة، ويهيئون فرص العمل للملايين منهم.
وللأسف يحاول عدد من هؤلاء في بلادنا التخطيط للانعزال والتمرد والقطيعة، والابتعاد عن الغير، أملاً في الفوز برضا الجمهور، ولو أنهم قاموا بتطوير مشاريعهم الخاصة لقدموا للبلاد خدمة عظيمة، ومنحوا أتباعهم نفوذاً لا يحلمون به حينما ينزوون بعيداً عن المجموعات الأخرى.
إن هدر الأموال في شراء الذمم واعتلاء المناصب ليس في صالح أحد على الإطلاق، ولن يؤدي إلى ترسيخ الزعامة أو يمهد الطريق للرئاسة، بل إن السبيل الأمثل لكل ذلك هو المضي في استثمارات كبرى تجعل صاحبها يتربع على عرش الاقتصاد والسياسة، وتمنحه ما يستحق من أهمية، وتحفظ له دوره في ذاكرة التاريخ أيضاً.