كيف نظر طه باقر الى فلسفة توينبي في دراسة التاريخ؟
ياسر جاسم قاسم
اعتبر العلامة طه باقر ان (توينبي) الفيلسوف البريطاني صاحب منهج في البحث المقارن في حضارات العالم وقد اورد طه باقر موجز عن منهج توينبي في دراسة التاريخ وارائه ونظرياته ، في تفسيره تاركا التعليق عليها ومناقشتها ونقدها ،والتي سنقوم بها من خلال هذه الدراسة ، لان ذلك موضوع مطول حسب رايه واحصى من خلال دراسته لهذه الحضارات 21 حضارة صنفها الى صنفين رئيسيين من حيث : الاصالة والاشتقاق او التفرع احدهما عن الاخرى ، فهنالك حضارات اصية غير مشتقة عن حضارات سابقة لها ، فكانت اصلا لحضارات اخرى تفرعت منها، وقد احصى توينبي من هذه الحضارات الاصلية ست قديمة هي: السومرية والمصرية والمينية (نسبة الى الملك الاسطوري مينوس وقد نشأت في جزيرة كريت والسواحل المجاورة) والصينية والمايا اما الحضارات الفرعية فتتضمن الحضارات البشرية الاخرى التي اشتقت من احدى تلك الحضارات الاصلية حيث تنتمي اليها بصلة البنوة ، بحسب تعبير توينبي ، واشهارها البابلية والحثية واليونانية ، وغيرها، وقد صار بعضها اصلا او اما لحضارات فرعية اخرى مثل اليونانية التي تنتمي الحضارة الغربية اليها بصلة البنوة وان كلا الصنفين من هذه الحضارات هي التي تكون عند توينبي حقولا مفهومة للبحث التاريخي الشامل والدرس المقارن وعلى النقيض من ذلك تاريخ قومية بمعزل عن المجتمع او الحضارة التي تنتمي اليها ، وهذا الاسترسال الحضاري يقابله "مصطلح المجتمعات المتحجرة" وهي: مجتمعات ماتت ولكنها بقيت على هيئة "متحجرات" بحسب التعبير البايلوجي ومنها اليهودية والمجوسية اللتين يرى فيهما توينبي بقايا متحجرة من المجتمع السرياني واليعاقبة (مذهب الطبيعة الواحدة في المسيحية) والنسطورية والجانية في الهند والبوذية ، اما الصنف الثاني فيضم المجتمعات البدائية ، والفرق الجوهري حسب طه باقر بين الحضارات والمجتمعات البدائية عند توينبي ليس في وجود الانظمة والمؤسسات الاجتماعية بل في الاتجاه الذي يسير فيه التقليد والمحاكاة عند افراد كلا المجتمعين فحين يكون اتجاه المحاكاة في المجتمعات المتحضرة الى المبدعين والمخترعين والرواد فيسير المجتمع باتجاه النمو والتطور والتبدل بوجه التقليد او المحاكاة في المجتمعات البدائية الى الاجيال القديمة من الاجداد والاسلاف ، اي الى الوراء والماضي فتتحكم العادات والاعراف وتقف حائلا دون التبديل والتغير ويبقى المجتمع ساكنا راكدا مثلما ظهر لاول مرة على مسرح التاريخ.
وتحليلنا الشخصي لهذه الرؤية عند توينبي والتي عرضها فقط طه باقر دون تحليل مطالبا بتحليلها من قبل الباحثين ، فنحن اليوم نقوم بواجبنا بتحليلها علنا نصل الى نتيجة ترضي الباحثين ، فنحن اليوم وحسب تصنيفات توينبي مجتمعات بدائية لماذا؟ ليس لاننا نستخدم الحجارة لاشعال النار فهذه امور مضت وقضت عليها الحضارة الحديثة ، بل لاننا نستخدم التقليد والمحاكاة ونورثها من الاجداد الى الاحفاد وتتحكم فينا العادات والاعراف العشائرية والدينية وتقف حائلا دون التبديل والتغير ، وبناء عليه فان المجتمع العراقي اليوم هو مجتمع ساكن راكد، ولو شئنا ان نضرب مثالا حيا على العادات والتقاليد والاعراف التي ارجعتنا الى الوراء هو ما يحصل اليوم بالاعراف العشائرية وخصوصا في البصرة ، حيث تشكل العشائرية نظاما يفوق نظام الدولة ويتجاوزها حيث تطالب الدولة الناس عند وقوع المشاكل ان تحل من قبل العشائر ثم يتجهون الى الدولة ، وهذه دلالة على اننا مجتمعات بدائية تتحكم فينا العادات والاعراف خصوصا تجاه المرأة ونظرة المجتمع اليها، وفي فكر كل واحد منا صورة عن تصرفات العشائر معه وتفاعل المجتمع معها.
وفيما يخص كيفية نشوء الحضارات يحدد طه باقر ان توينبي فند ان سبب نشوء الحضارات هو العرق او الرس او بفعل عوامل طبيعية وانما السبب لوجود الحضارات هو مبدأ (التحدي والاستجابة) chalange & response وهو مبدأ تحدي من جانب الانسان وتكون هنالك استجابة بشرية ، لهذا التحدي ، ويعزي وجود حضارات السومريين ومحضارة وادي النيل ان الاستجابات الناجحة التي بدرت من بناة تينيك الحضارتين اززاء تحدي البيئة الطبيعية الوحشية ذات الانهار والاحراش والفيضانات ولكنهم تغلبوا عليها وروضوها بأقامة اجهزة الري البارعة والسيطرة على حياة الفيضانات فمثلا يرى توينبي في حالة نشوء الحضارة السومرية ،ان الامتحان او التحدي الذي عاناه واجتازه بنجاح بناة تلك الحضارة قد صورته اسطورة الخليقة البابلية المعروفة ، فان قتل الاله مردوخ للتنين او الهة المياه الاولى "تيامة" وخلق العالم من جسمهايرمز الى الصراع بين الانسان وبين البيئة الطبيعية العنيفة وكيف استطاع ان يخضعها فخلق منها "ارض شنعار المأثورة" بشق الجداول والانهار والتحكم بفيضاناتهما ولكن قصة الطوفان البابلية ترمز الى ثورة تلك الطبيعة على القيود التي قيدها الانسان بها وبناء على نظرية توينبي هذه انه كلما ازدادت شدة التحدي ازداد الحافز والاستجابة ، لكن نجد ان توينبي هنا في ورطة ازاء هذه القاعدة ، لان معناها يفضي ان افضل البيئات لتكوين الحضارات هي: الصحارى والمناطق القطبية ، ولكنه يخلص الى ان التحديات البشية ايضا تقود الى تكوينات حضارية ملفتة ويظهر التحدي البشري حسب طه باقر نقلا عن توينبي" والذي يعمل على نشوء الحضارات الفرعية من الحضارات الاصلية متى ما فقدت الحضارة الام قوة الابداع التي مكنتها ابان نموها من ان تجتذب ولاء اختياريا من الجماعات الداخلة في حضيرتها او التابعة لها في الخارج ، ولكن عندما تتوقف تلك الحضارة عن النمو وتبدأ في سيرها الى الانحلال والزوال فانها تنقسم وتتجزأ الى اقلية مسيطرة تحكم باستبداد متزايد وقد كان دور هذه الاقلية في ازمان النمو والتطور دون الريادة والابداع والقيادة الاختيارية من جانب الجماهير التي تصبح اثناء التدهور والانحلال من نوع البروليتارية الداخلية والخارجي فتستجيب لهذا التحدي الجديد بان تصبح واعية وشاعرة بكيانها وشخصيتها المنفصلة ، ويستمر فرض الاقلية المسيطرة سيطرتها عليها بالقوة عزيمة الانفصال فيها ويتم الانفصال حين تتداعى الحضارة الام وتقترب من نهايتها وتدخل ازمة الاحتظار والموت ونشأت بعض الحضارات الرفعية خارج موطن الحضارة الام فتعرضت للتحدي الطبيعي بالاضافة الى التحدي البشري الذي نتج من فقدان الحضارة الام قوة الابداع والجذب وزمام القيادة "، هذا ما افضى اليه توينبي ، ومثال على ذلك نشوء الحضارة الاسلامية في بلاد الاندلس خارج جسد الام(الحضارة الاسلامية في دمشق) وهنا اقول اين نحن اليوم كشعوب من الابداع والقيادة والوعي وهي كلها بمجملها مقومات حضارية نفتقد اليها والا لو كانت هنالك اقلية تمتلك الوعي وزمام المبادرة لاستطاعت ان تشكل حضارة بعيدا عن جسد الدولة اما ان نسير بواقع خطى معروفة نحو الانفصال عن الدولة العراقية الام على سبيل المثال دون ان نشكل كيان واعي وحضاري يستجي للتحديات البشرية والاطماع التي تحيق به في هذا العصر فاني اجدها من المجازفات الكبرى في مصير دولة وشعب وامة. ونحن اليوم ازاء كل هذه التحديات الطبيعية سواء كانت بشرية او غيرها، وتحدياتنا في العصر الحديث تعدت الاطر المسموح بها طبيعيا فشحة المياه وملوحتها وعدم صلاحيتها للاستخدام البشري وتحديات بشرية هائلة تتمثل في الزيادة المطردة للسكان دون ان تكون هنالك استجابات واعية ، لهكذا زيادات غير مسيطر عليها ودون ظروف بيئية واعدة ، وما زالت الامة على وضعها دون تغيير او استجابة واقعية ، وفي ظل حجم الفساد المالي والاداري الكبير الذي ينخر بالدولة واجهزتها ، ونجد ان الشعب غير قادر على صنع التغيير مما يدلل على شعوبنا البدائية في تفكيرها وعدم صنع نهضة لها لمجابهة هذه التحديات ، فشعوب ديدنها فقط ان تلطم وتطبخ وهذه التحديات الكبرى التي تواجهها غائبة عنها ، انت امام مفرق طرق اما الحضارة او البداوة ، ولكن البداوة هي المتربعة معنا وفينا، فنحن لسنا من الحضارة بشيء لا كأقلية مستبدة انفصلت عن دولة كبرى حضارية ولا كحضارة قائمة بحد ذاتها بل دويلة تتقاسمها المطامع والمؤسسات الدينية والعشائرية .
وفي اطار نمو الحضارة فهنالك حضارات ولدت ولكن توقف فيها النمو مثل البدو والاسكيمو والبولونيزيين وتطغى على هذه المجتمعات ظاهرتان بارزتان هما: الاغراق في التخصص او ضيق التخصص وظاهرة الطائفة او العنف caste فيتألف مجتمع الاسكيمو مثلا من الصيادين البشر ومساعديهم من الكلاب ويقارن توينبي هذه المجتمعات البشرية بانواع الحشرات المتميزة بالتنظيم الاجتماعي المفرط بالتخصص وتقسيم العمل وخلاصة ما يمكن ايجازه عن طبيعة نمو الحضارات في راي توينبي" ان انبعاث استجابة عظمى فورية الى التحديات ليس المقياس النهائي على نمو الحضارات ،بل ينبغي الا يقتصر التحدي المثمر الحقيقيعلى تحفيز من يقع عليه انجاز استجابة ناجحة واحدة يقف عندها مزهوا ومغرورا بنشوة النجاح والنصر ، لكنها يجب ان توكن على هيئة قوة محركة تدفع المجتمع المتحدي الى انجاز مراحل اخرى من الابداع، بحيث ينتقل من الانجاز الاول الناجح الى كفاح جديد، من حل مشكلة واحدة الى انبعاث مشكل اخرى تتطلب الحل، وبعبارة اخرى ينبغي ان تستمر التحديات والاستجابات الناجحة الموفقة، فان الاستجابة الواحدة الموفقة التي تنقل المجتمع الى حالة الاستقرار والموازنة ليست كافية لنقل المجتمع من الولادة الى النمو ، وانما يلزم ان يستمر في اندفاعه لينتقل من التوازن المستقر الى ما فوق الموازنة ينشأ عنها تحد جديد يحفزه الى استجابة جديدة ناجحة وهكذا تستمر التحديات والاستجابات المبدعة في المجتمعات (الحضارات )النامية"[1]وهنا اتساءل اين القوى المحركة التي تدفع مجتمعنا للتحدي وانجاز مراحل الابداع بحيث يكون هنالك انتقال من انجاز وجودنا الى كفاح جديد وحل مشاكلنا في اطار حضاري واعد، وهنا فنحن نفتقد وجود هكذا اليات تماما للانجاز الحضاري ولتحريك المجتمعات، كما ان استمرار التحديات والاستجابات الناجحة تمكن المجتمعات من تقرير مصائرها ، وتقرير المصير من اهم المعايير للنمو الحضاري حيث نكون في حالة من التصير الحضاري.
ويناقش توينبي حسب عرض باقر المهم وتلخيصه لهذه الافكار في الحضارة وهي العلاقة بين الفرد والمجتمع فيعرض لنظريتين الاولى تقول: ان الفرد هو اساس الحضارة وان المجتمع ليس الا مجموعة من الافراد، ونظرية اخرى تعتبر ان الاساس الحضاري هو المجتمع وليس الفرد الذي هو مجرد جزء من كل ، على ان توينبي يرى بدلا من هذين العلاقتين :ان المجتمع البشري عبارة عن نظام من العلاقات الاجتماعية ما بين الافراد المكونين له لا يقتصر الامر فيهم على انهم افراد بل انهم من قبيل الحيوانات الاجتماعية ، وان وجودهم غير ممكن مالم يكونوا داخلين في نظام من العلاقات المتبادلة فيما بينهم.
وان المجتمع حصيلة تلك العلاقات ما بين الافراد، ونحن مع حقوق الفرد ومع وضع الفرد كأساس للمجتمعات وهو ما تركز عليه النظريات الحديثة في علم الاجتماع فلا تنكر مسألة العلاقات الاجتماعية بين الافراد ولكن تبقى المسألة الاهم :حقوق الفرد كأساس حضاري للجماعة .
وهنا يشير طه باقر اشارة مفادها اهمية الفرد في دفع عجلة التقدم داخل المجتمعات حين يعتبر " استمرار المجتمع يتوقف في النمو المطرد على وجود عزم على الحركة يقودها اشخاص يعني افراد موهوبون مبدعون يتحلون بالقدرة على التاثير في المجتمع وقيادته وحمل جماهيره على السير في ركبهم، ولكن هذه الحالة المثلى من وجود قادة مبدعين وجماهير تابعة تلقائيا وطواعية يسبب حتمية مطردة ، اذ كثيرا ما يحدث فقدان الاقليات القائدة صفة الخلق والابداع ، وانعدام التبعية الجماهيرية لها ، فيحدث الانشقاق في جسم المجتمع وتبدأ امارات الانهيار او التوقفلاعن النمو في الحضارات وهنا يشر توينبي الى "تدهور الحضارات وانحلالها) " [2]كما يختلف توينبي عمن قرأ التاريخ فلسفيا معن الحضارات واعتبر انها تشيخ وتهرم وتموت كأبن خلدون وشبينغلر ، بل يعتبر توينبي ان ارادة الانسان قادرة على تغيير مصير الحضارة برمته وفي انه ليس للحضارات اعمار طبيعية مقدرة الاطوال ، وانه ما من سبب يمنع الحضارة من ان تستمر في نموها الى ما لا نهاية ويعتبر وبوجه وتحليل ميتافيزيقي غيبي ان الانسان تعيش حضارته (ما دامت الشرارة الالهية لقوة الابداع متقدة في نفوسنا) وهنا نجد ردا من الدكتور طه باقر يفند فيه هذه الاراء حيث يناقض توينبي نفسه في مسألة الحتمية الالهية theistic determinism كما يبتعد عن منهج البحث الذي اختطه لنفسه في ركونه الى امور غيبية جبرية خارج دائرة التاريخ البشري مثل التنبؤ والرؤيا والتجلي الى غير ذلك من التعابير والمصطلحات الدينية التي يستقيها بالدرجة الاولى من الاناجيل.
ويفسر توينبي امارات التدهور والانحلال في الحضارات مثل ظهور ما يسميه "زمن الشدائد" الذي تموت فيه الحضارة وطبيعة هذا التوقف عن النمو او التدهور يحلله توينبي الى ثلاثة امور يذكرها العلامة طه باقر :
1- انعدام او فقدان ملكة الابداع عند القادة او الاقليات التي كانت تتميز بها المملكة في طور نمو الحضارة.
2- انعدام مقابل للمحاكاة او التقليد من جانب الاكثرية التي كانت في ركاب الاقلية .
3- زوال الوحدة او التماسك الاجتماعي في الحضارة المتدهورة
واليوم الحضارات تموت بسبب التقاعس والتقهقر الكبير الذي يطرأ على البلاد والمجتمعات من قبل ابناء المجتمع انفسهم ، فحضارة دولة ومكنوناتها تتعرض للانهيار في حال كان الشعب صامتا وغير فعال وغير قادر على ان ينهض بنفسه من اشكاليات وضعه وما تعرض له على يد الحكام وهذا ما يحدث في العراق في العقود الاخيرة عندما تسلط الاستبداد عليه ممثلا بنظام البعث ورجوع الناس الى خلفياتهم الاثنية والطائفية كردة فعل على الاستبداد والنتيجة سقوط نظام صاحبه سقوط حضاري كبير تعرضت اليه الدولة العراقية فقضى على ما بقي من العراق كدولة وحضارة وشعب حتى .
الفرد والجماعة :
ان المجتمعات البدائية كانت مجتمعات متحدة تشتغل بالروح المشتركة الجمعية ، ونرى توينبي لم يك صائبا في نظرته للعلاقات المتبادلة بين الفرد والجماعة فيسعى التطور الحديث الى تفكيك المجتمعات الى وحدات صغيرة متباينة، تمتلك كل منها عواطف وافكارا واراء متماثلة وهنا يقول غوستاف لوبون:
"ان اتحاد الارواح الفردية في روح جمعية يشكل عودة الى اطوار بعيدة جدا من التاريخ، يمكن ملاحظة انها ما تزال في حالة البقاء عند الشعوب البدائية المتأخرة فهذه الشعوب البدائية تتألف في الواقع من مجموعات صغيرة تسمى قبائل تتحالف مؤقتا تتقاتل غالبا ، دور الفرد فيها ضعيفا جدا فليس لديهم الا روح جمعية ولذلك فان كل افراد القبيلة الواحدة يعتبرون مسؤولين عن اعمال اي فرد منهم "[3]
واليوم العالم يتجه نحو قراءات مختلفة لهذه الحضارات واقصد بالتحديد الساحل البشري حيث امتدت حضارات مع الساحل على امتداد العالم وقد بين وقول لوبون مرتبط في مجتمعاتنا فروح العشيرة هو السائد فاذا قام شخص من العشيرة بحادثة قتل او سرقة فانها تتحمل كافة التبعات ، وبناء عليه فان مجتمعاتنا وحسب تصنيف لوبون مجتمعات بدائية جدا. بالمناسبة فان ( روح البدائيين الجماعية) كما يسميها لوبون تمتلكها الشعوب المتحضرة ، ايضا ، بيد ان روح الفردية تحد من تأثيرها، وان المرء حسب التصنيفات الحديثة التي يؤيدها لوبون لن يصبح بشخصية قوية الا عندما سيتخلص من الروح الجمعية . خلاصة القول : ان انحلال الحضارات وتدهورها ينشأ من داخلها وليس بفعل عوامل خارجية والعدد الخارجي انما يسدد الضرربة القاضية للمجتمع المتدهور ويستشهد توينبي باشعار انجليزية منها ما يقوله الشاعر Meredith " ان مآسي الحياة لا حاجة في تعليل حدوثها الى شرير خارجي فان الاهواء هي التي تحرك الدسائس ، وان ما في باطننا من زيف هو الذي يغدر بنا" ومن اسباب تدهور الحضارات التي يذكرها ايضا ما يسميه (اخفاق عزم المجتمع في تقرير مصيره) ووضع قادته المبدعين نحو طريق التعية والمحاكاة ، فيحل محل الطواعية والانجذاب الاختياري الاكراه، ويضطرب الانسجام في اجزاء المجتمع وتتحرك الجماهير بحركة ديناميكية جامدة ويحدث التنافر ما بين الانظمة والمؤسسات التي يتألف منها المجتمع وينعدم التمسك بالقيم الاجتماعية وتحاول اجزاء من المجتمع اعادة الانسجام الاجتماعي وايقاف المجتمع من الانهيار ، بادخال نظم او اراء جديدة لم تكن في المجتمع السابق قد نظمت لتستوعبها وعندئذ يصار الى التسويات او الانقلابات وعندما يتفاقم التنافر ، ما بين الانظمة اشده ، تقع البشاعات الاجتماعية وانا ارى ان جميع ما ذكره توينبي حول عوامل سقوط الحضارات وانحلال المجتمعات متحقق تماما في المجتمع العراقي ، فالانقسام المجتمعي موجود والتنافر بين الانظمة والمؤسسات كذلك وحركة الجماهير بحركة ديناميكية جامدة موجود، فهل مجتمعنا على حافة الانحلال ، الانقسام،التشرذم، ام دخل بها فعليا ، انا اجد ان هذه العوامل المسببة لسقوط الحضارات هي نفسها تؤدي الى سقوط الدولة الموحدة وتعمل على تجزئتها الى دويلات فلذلك ، وبما انه كل هذه العوامل موجودة في مجتمعنا اجد ان مجتمعنا مقبل على انحلال ودولتنا تقبلة على تجزئة لا مفر منها ، فلا دولة وطنية بل دويلات طوائف واعراق بعد ان تجسدت في العراق كل قيم الانحلال الحضاري التي تحدث عنها توينبي، بقيت مسألة وهي هل ستوحدنا قيادة مستقبلية قادرة على القضاء على عوامل الانحطاط هذه ، هذا ما ستثبته قادم السنوات ؟!!!!!
[1] - طه باقر ، توينبي وفلسفة التاريخ، المورد، العدد 7، اذار، 1976، ص 19
[2] - م. س.
[3] - غوستاف لوبون ، الاراء والمعتقدات نشوؤها وتطورها ، ت: نبيل ابو صعب ، سوريا ، دار الفرقد، 2014، ص224.