البارحة عصراً سمح لي الحارس المعقل بالرحمة والطيبة ، أن أصعد نحو سطحه المفلطح .
هو خزان ماء كونكريتي عملاق ما زال نابتاً فوق ثلاث . ربما كانت أربعة .
تحته كراج سيارات أجرة أشهرها الستة وستين والرف والمارسدس العنجة ، تنقل الفقراء ذهاباً وعودة إلى منازلهم بشرق بغداد حيث مدينة الثورة أعظم جيوب الفقر ، وما قبلها حتى خاصرة شارع فلسطين .
أمامي كنيسة بيضاء مدهشة تحضن مقبرة محروسة بمحطة وقود ، وبدورة نظر كاملة رأيت مفتتحات ومنتهيات شوارع النضال والسعدون وأبي نؤاس والرشيد والجمهورية والشيخ عمر والكفاح ، وواحد يتيم يبدأ من تدويرة تحت مجسر محمد القاسم ويذهب إلى ساحة بيروت بعد أن يمر بمشفى الجملة العصبية والكندي وقبر سيد حمد الله .
من جهة الشيخ عمر وجدارية فائق حسن وحديقة الأمة وتمثال الأم وعبقرية نصب جواد سليم والجسر الذي يعبر مسطحاً مائياً ملتوياً على بطنه ، كان بمقدوري مناظرة سينما غرناطة والمقهى المعلقة على ركن الشارع ، ثم مجيئاً صوب شربت سمير وكبة الكبة وسينما ميامي وسينما الحمراء ، وبعمق فوضى سوق الهرج ظهرت سينما الرصافي وسينما شهرزاد وبينهما سطر طويل من دكاكين الملبس المستعمل والجديد المشكوك بسعره بسبب إلحاح البائعين .
إن يممت العينين صوب ظهر تحفة جواد سليم ، سترى أول شارع وسينما الخيّام ، وقبلها فلافل أبو سمير وشربت وحلويات أبو منير وسندويجات مطعم الهلال الباردة وربما حانة الركن الهادىء وتمثالاً فولاذياً لعامل شرس يحرس المكان من حماقات أنصاف السكارى وعياط باعة اللبن وبسطات السكائر وطابور المشاهدين المتحمسين ولمعان قنادر الأفندية وزلوف الخنافس وطراوة نعمة الميني جوب وطلقات جارلس برونسن وبود سبنسر وترانس هيل وإيستوود واحتمال كاري كوبر ، والهدوء المريب من حلق شارع الرشيد .
إن عدت إلى سطح الخزان ثانية ومنحت ظهرك نحو الباب المعظم ، سيكون بمرمى العينين مفتتح شارع النضال ودار سينما صيفية قد يكون اسمها النصر ، ومكتبة جاسم المطير أو صاحبه ، وهرجة طيبة من عربات بيع الأطعمة التي تستضيف زبائنها المثقوبة جيوبهم جلوساً مريحاً هنيئاً فوق علب حليب نيدو وصناديق خشبية من صنف عشرين بطل ببسي كولا .
في هذه اللحظة الكاسرة ، تحامق الدرويش وسلطن على شجن بعيد ودار على نفسه دورة تلتها دورات ، فزلت القدم وتدهور الجسم حتى لاقى صفحة الإسفلت التي تثبت أرجل الخزان .
لم يعد بمقدوره بعد الآن سماع تلوينات زوامير سيارات النقل ، ولا عياط باعة الخيار والبرتقال والرمان والعنب والأسعار التي تخضع لوقت المساء والعودة إلى المنازل .