الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دمشق‭ ‬وبغداد‭  

بواسطة azzaman

دمشق‭ ‬وبغداد‭  

محمد زكي إبراهيم

 

ليس‭ ‬المقصود‭ ‬هنا‭ ‬عاصمتي‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬دمشق‭ ‬وبغداد،‭ ‬اللتين‭ ‬عنت‭ ‬لهما‭ ‬الوجوه،‭ ‬وطبقت‭ ‬شهرتهما‭ ‬الآفاق،‭ ‬بل‭ ‬هما‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة،‭ ‬عاشا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭. ‬وكانا‭ ‬سببين‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬انهيار‭ ‬دولة‭ ‬المغول‭ ‬في‭ ‬العراق‭.  ‬

‭ ‬ولمن‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬فإن‭ ‬لقب‭ ‬السلطان‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬الرئاسة‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬والعراق‭ ‬والجزيرة‭ ‬وبلاد‭ ‬الروم‭ (‬تركيا‭)‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استقل‭ ‬آباقا‭ ‬خان‭ ‬بن‭ ‬هولاكو‭ ‬عن‭ ‬امبراطور‭ ‬المغول‭ ‬أو‭ ‬الخان‭ ‬الأكبر‭. ‬واتخذ‭ ‬من‭ ‬تبريز‭ ‬عاصمة‭ ‬له،‭ ‬وما‭ ‬لبث‭ ‬خلفاؤه‭ ‬أن‭ ‬ابتنوا‭ ‬عاصمة‭ ‬جديدة‭ ‬لهم‭ ‬عام‭ ‬1310‭ ‬للميلاد‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬السلطانية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬قزوين،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬فهو‭ ‬الوزير‭ ‬الأعظم،‭ ‬أو‭ ‬صاحب‭ ‬الديوان،‭ ‬وكان‭ ‬أولهم‭ ‬مؤيد‭ ‬الدين‭ ‬العلقمي،‭  ‬وزير‭ ‬المستعصم‭ ‬العباسي‭ ‬آخر‭ ‬خلفاء‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬الذي‭ ‬احتفظ‭ ‬بمنصبه‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭.    ‬

‭  ‬وتبدو‭ ‬الأمور‭ ‬لأول‭ ‬وهلة‭ ‬عادية‭ ‬جداً،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬السلطة‭ ‬الحقيقية‭ ‬كانت‭ ‬بيد‭ ‬الأمراء،‭ ‬وهم‭ ‬أولاد‭ ‬وأقارب‭ ‬السلاطين‭ ‬الذين‭ ‬تعاقبوا‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬الدولة،‭ ‬ومنهم‭ ‬نائب‭ ‬السلطان‭ ‬الأمير‭ ‬جوبان،‭ ‬والد‭ ‬دمشق‭ ‬وبغداد،‭ ‬وكان‭ ‬مسلماً‭ ‬صالحاً‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬به‭ ‬منصبه‭ ‬الخطير‭ ‬هذا،‭ ‬أما‭ ‬ابنه‭ ‬الخواجة‭ ‬دمشق‭ ‬فكان‭ ‬متهوراً،‭ ‬وقد‭ ‬لازم‭ ‬السلطان‭ ‬وتدخل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة‭ ‬من‭ ‬شؤونه،‭ ‬وأعانه‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬صغر‭ ‬سن‭ ‬السلطان‭ ‬أبي‭ ‬سعيد،‭ ‬وقلة‭ ‬درايته‭ ‬بشؤون‭ ‬الحكم‭.  ‬

‭ ‬ومما‭ ‬عرف‭ ‬به‭ ‬دمشق‭ ‬هذا‭ ‬مغامراته‭ ‬العاطفية،‭ ‬التي‭ ‬حملته‭ ‬على‭ ‬التحرش‭ ‬بالنساء‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬أو‭ ‬وجل،‭ ‬فحينما‭ ‬يجتمع‭ ‬النفوذ‭ ‬مع‭ ‬الشباب‭ ‬الغض،‭ ‬ونقص‭ ‬التجربة،‭ ‬يحدث‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬الطائش‭. ‬وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬جاءت‭ ‬أرملة‭ ‬السلطان‭ ‬السابق‭ (‬محمد‭ ‬خدابندة‭) ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬زوجها‭ ‬السلطان‭ ‬أبي‭ ‬سعيد،‭ ‬وقالت‭ ‬أنها‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬رجلاً‭ ‬لما‭ ‬أبقت‭ ‬على‭ ‬جوبان‭ ‬وأولاده،‭ ‬فقد‭ ‬وصلت‭ ‬الأمور‭ ‬بابنه‭ ‬دمشق‭ ‬إلى‭ (‬الفتك‭) ‬بحرم‭ ‬السلطان،‭ ‬وبعدما‭ ‬قضى‭ ‬الليلة‭ ‬السابقة‭ ‬عند‭ ‬إحدى‭ ‬الأميرات،‭ ‬بعث‭ ‬إليها‭ ‬أنه‭ ‬قادم‭ ‬للمبيت‭ ‬عندها‭ ‬الليلة،‭ ‬فلم‭ ‬يسع‭ ‬السلطان‭ ‬سوى‭ ‬إرسال‭ ‬جنوده‭ ‬إلى‭ ‬القلعة‭ ‬التي‭ ‬يبيت‭ ‬بها‭ ‬دمشق‭ ‬هذا‭ ‬وقتلوه،‭ ‬وحينما‭ ‬سمع‭ ‬أبوه‭ ‬جوبان‭ ‬بالحادث‭ ‬وكان‭ ‬حينها‭ ‬في‭ ‬خراسان،‭ ‬أعد‭ ‬العدة‭ ‬للقتال،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السلطان‭ ‬تمكن‭ ‬منه‭ ‬وقتله‭ ‬هو‭ ‬وعدداً‭ ‬من‭ ‬أولاده‭.  ‬

‭ ‬وتشاء‭ ‬المقادير‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الحادث‭ ‬أن‭ ‬يبصر‭ ‬السلطان‭ ‬الشاب‭ ‬امرأة‭ ‬بارعة‭ ‬الجمال،‭ ‬خلبت‭ ‬لبه،‭ ‬وملكت‭ ‬جنانه،‭ ‬ولما‭ ‬سأل‭ ‬عنها‭ ‬تبين‭ ‬أنها‭ (‬بغداد‭ ‬خاتون‭) ‬ابنة‭ ‬غريمه‭ ‬جوبان‭ ‬الآنف‭ ‬الذكر،‭ ‬وكانت‭ ‬زوجة‭ ‬ابن‭ ‬عمته‭ ‬حسن‭ ‬الجلائري‭.  ‬

والجلائري‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أعان‭ ‬السلطان‭ ‬أبا‭ ‬سعيد‭ ‬على‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬أبيها‭ ‬والجلوس‭ ‬مكانه،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬تنازل‭ ‬عنها‭ ‬مكرهاً‭ ‬للسلطان‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭! ‬وباتت‭ ‬بغداد‭ ‬الزوجة‭ ‬الأثيرة‭ ‬له‭ ‬لسنوات‭ ‬عديدة،‭ ‬وغدت‭ ‬بغداد‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬لمن‭ ‬أورد‭ ‬أسرتها‭ ‬مورد‭ ‬الهلاك‭.  ‬

‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬السلطان‭ ‬على‭ ‬هيامه‭ ‬ببغداد‭ ‬وإيثاره‭ ‬لها،‭ ‬فقد‭ ‬دار‭ ‬الزمن‭ ‬دورته،‭ ‬وأبصر‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬ابنة‭ ‬أخيها‭ (‬دمشق‭) ‬واسمها‭ ‬دلشاد‭ ‬خاتون،‭ ‬فأحبها‭ ‬حباً‭ ‬شديداً،‭ ‬وهجر‭ ‬عمتها‭ (‬بغداد‭) ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬دست‭ ‬له‭ ‬السم‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬فمات‭ ‬بعد‭ ‬ساعات‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬ولما‭ ‬عرف‭ ‬الأمراء‭ ‬أن‭ ‬بغداد‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬قتلت‭ ‬السلطان‭ ‬أمروا‭ ‬بها‭ ‬فقتلت،‭ ‬وألقيت‭ ‬جثتها‭ ‬في‭ ‬الطريق‭.  ‬

‭ ‬ولا‭ ‬تكتمل‭ ‬الرواية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬الأمير‭ ‬حسن‭ ‬الجلائري،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬مغولية‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬فرع‭ ‬جنكيز‭ ‬خان،‭ ‬بالزواج‭ ‬من‭ ‬أرملة‭ ‬السلطان‭ ‬القتيل‭ ‬دلشاد‭ ‬خاتون‭ ‬هذه،‭ ‬وتمت‭ ‬عملية‭ ‬تبادل‭ ‬الزوجات‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬القسر‭ ‬تارة،‭ ‬والقتل‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭!. ‬

‭ ‬وبعد‭ ‬شهور‭ ‬من‭ ‬تولي‭ ‬السلطان‭ (‬أربا‭ ‬خان‭) ‬عرش‭ ‬المملكة،‭ ‬قتل‭ ‬هو‭ ‬والوزير‭ ‬غياث‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬فتنة‭ ‬داخلية،‭ ‬وحاول‭ ‬القتلة‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬العرش‭ ‬والاستئثار‭ ‬بالسلطة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يصف‭ ‬لهم،‭ ‬وما‭ ‬لبث‭ ‬الشيخ‭ ‬حسن‭ ‬الجلائري‭ ‬أن‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬الأمر‭ ‬وأعلن‭ ‬نفسه‭ ‬سلطاناً‭ ‬جديداً،‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬لينتهي‭ ‬حكم‭ ‬المغول‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬والعراق‭ ‬والجزيرة‭ ‬والروم،‭ ‬ويبدأ‭ ‬حكم‭ ‬الأسرة‭ ‬الجلائرية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬عام‭ ‬1338‭ ‬للميلاد‭ ‬ويدوم‭ ‬قرابة‭ ‬قرن‭ ‬كامل‭.   ‬

‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬لقصص‭ ‬الغرام‭ ‬الجامح‭ ‬الدور‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬طي‭  ‬صفحة‭ ‬الاحتلال‭ ‬المغولي‭ ‬للعراق،‭ ‬وبدء‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬التاريخ،‭ ‬استعادت‭ ‬بغداد‭ ‬فيه‭ ‬مركزها‭ ‬السابق‭ ‬كعاصمة‭ ‬للعالم‭ ‬القديم،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬قط‭ ‬مكانتها‭ ‬التي‭ ‬بلغتها‭ ‬من‭ ‬قبل‭.  ‬


مشاهدات 500
الكاتب محمد زكي إبراهيم
أضيف 2023/12/16 - 10:20 PM
آخر تحديث 2024/07/15 - 9:52 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 258 الشهر 7826 الكلي 9369898
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير