الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الرجل ذو القبعة الحمراء

بواسطة azzaman

الرجل ذو القبعة الحمراء

مهند الياس

منذ اكثر من عام .. وانا اراقب هذا الرجل الغريب الاطوار فانا دائما ما اراه يدخل المقهى بهدوء جدا ووقار عال متصنع ممزوج بشي من الغرور وحتى يحظى بانظار الوجوه التي تتوزع عبر اطراف المقهى وهو غير

أبه لنظراتها وابتساماتها وهمساتها الساخرة ،ذ لك لانه يعتقد بان مظهره الذي يتسم

برضاه وقناعته هو الاهم من كل شيء.. لذلك تراه يجلس بطريقتة الخاصة وكأنه (سلطان زمانه ) .. فهو يرتدي قميصا احمرا ، وقبعة بيضاء يلف قاعدتها من الاسفل بشريط فسفوري ابيض ، بينما يضع على شمال صدره وردة كبيرة من نوع عباد الشمس ويرتدي بنطالا ابيضا ويطوق جذعه النحيف بحزام اسود

له لمعة داكنة .

قلت وانا اتفحص هذا الكائن الخرافي :

انه مختلف تماما .. ربما يحس انه يعيش في عالم

خاص رسمته مخيلته بطريقة مختلفة تماما ،

رفع يده نحو النادل ، واومأ له بقدح من الشاي ، لم ينتبه النادل باديء الامر ، ورفع يده مرة اخرى ، اجابه النادل بحركة من رأسه ، حرق سيكارته وهو يدردم بكلمات صامته تدل على عدم رضاه لشيء ما.

اقترب منه احد الشباب وطلب منه ان يلتقط معه صورة ، ابتسم ورفع اصبعه :

بالف دينار !

هزالشاب رأسه بالموافقة .

عدل الرجل الخرافي من جلسته ، ووضع ساق على ساق ، ثم وضع سيكارته المشتعلة بين شفتيه ، قال له الشاب :

انها صورة جميلة !

وقرب الصورة له التي رسمها الهاتف له ليقتنع بها قال :

انها رائعة !

بادره الشا ب ثانية :

سالتقط لك صورة اخرى !

لكن الشاب خرج مسرعا مغادرا الرجل الخرافي

ولم يعطه شيئا و صرخ به :

اين الالف ياكلب ؟

امتعض الرجل كثيرا ،وراحت تتحرك شفتاه بكلمات ساخطة ويحرك رأسه بعدم الرضا...!

بالامس ، اخبرني صديق عن اخبارهذا الرجل التي لم اعرفها من قبل ، حيث قال:

انه يعيش لوحده في هذا العالم ، يتنقل عبر الفنادق الرخيصة ، والغرف العتيقة داخل البيوت المتهالكة و التي تقع في مناطق ومحلات بغداد درابينها المتهالكة وعبر ازقتها الخربة وفي

كالحيدرخانة والبتاويين وفي اماكن يختارها هو كما تحلو له ذائقته ، لتكون اشبه بمنتجع له ولعالمه الخاص الذي تألفه وحدته ، ويتوحد بين جدرانه ، ويسترسل الصديق ... لقد كان هذا الرجل متزوجا من ثلاثة نساء ، الاولى توفيت نتيجة مرض عضال الم بها ، وكان يحبها كثيرا ، حيث التقى بها حينما كان يعمل كساعي بريد

لدى الحكومة ..اما الثانية فقد هجرته و الثالثة

خرجت من بيته واختفت ولم يعرف احد بمصيرها ويقال انها كانت جميلة الى الحد الذي كان يغار عليها

حين ينظرا ليها الاخر ون !

وتساءلت مع نفسي :

من اين لصديقي كل هذه المعلومات !

ويسترسل :

و....مرة حاولت ان ارافقه الى عالمه الخاص اي المكان الذي يسكن فيه

وكانت هذه المحاولة صعبة جدا ، اذ اني اعرف جيدا

انه لا يريد ان يعرف احدا عن كشف ولو جزء من اسراره الخاصة

وذات يوم دعوته الى وجبة غذاء في احد المطاعم القريبة من محلة الفضل ، فتقبل دعوتي ، اذكر كان يتناول الطعام بنهم وشراهة كما لو انه لم ياكل منذ يومين بعدها قال لي .. الان سنذهب الى البيت لنأخذ

قسطا من الراحة وسوف نشرب الشاي سوية !

قلت:

لابأس!

*

كان الوقت ظهرا ، وسخونة الجو لا ترحم ، اذ كانت الشمس ترسل اشعتها بلهيب بالغ فوق الرؤس ،وكثيرا من الوجوه تنحشر عبر ظلال الابنية والعمارات العالية و انعطافات بعض الدكاكين التي تثبت فوق واجهاتها واقيات من القماش أ شبه ماتكون بالمظلات لتقي سطوة حرارة اشعة الشمس .. وانا اسير مع الرجل ، احسست اني سوف اسقط على الارض من شدة الغثيان.. قال:

سندخل ذلك الزقاق !

.. وقرأت قطعة صغيرة ثبتت على حافة الجدار

(محلة جديد حسن باشا ) ..وقتها دارت في خلدي اشياء كثيرة ، حيث ان هذه المحلة كانت لها هيبتها في الماضي القريب ، فقد كان يسكنها موظفون كبار ، واعيا ن ، ووزراء ، كان لهم د ورهم المؤثر في سياسة العراق في العهد الملكي ، اما اليوم فقد بدا هذا الزقاق يتكيء على حافة الموت والاندثار ، فقد تهشمت وا جهات جدرانه ، وانهارت كثير من معالمه ، فلم يبق منه سوى بقايا من اثار خربة ،، توغلنا الى الداخل قليلا ، فلم اجد لاي اثر ، عدا امراة في الاربعين تقف على عتبة باب بيتها وهي ترفع ثوبها الى الاعلى قليلا، وهي تمسك بخرطوم الماء ترش مقدمة البيت ، حيث شممت رائحة التراب المتطاير ، نظرت الي بعينين مبتسمتين

وقد سمعتها قالت : يا هلا !

دلفنا الدار ، وكان الممر المؤدي الى صحن البيت ضيقا ، وقد فاحت من داخل البيت روائح عطنة لا ترحم

قال لي صاحبي :

اصعد من هنا !

وارتقينا سلما بعض طابوقه الفرشي الاصفر قد تكسر وتحولت الى حفرا صغيرة ربما تنحشرفيها

كائنات صغيرة ، بينما اقعت قطة صغيرة في احدى زوايا ا لسلم وهي مستسلمة للطمأنينة ، ونظرت الى سقف السلم فرأيت طيورا تصفق باجنحتها وهي تنتقل من مكان الى اخر ،، ولما انتهينا الى الاعلى

انعطفنا يمينا حيث المكان عبارة عن ممر توزعت عبره غرف عديدة ، بعضها مقفلة وبعضها قد انفرجت ابوابها اذ توقف الرجل امام غرفته المقفلة

قال:

هذه غرفتي !

ودخلنا سوية ، قال:

اجلس هنا !

جلست على كرسي صغير من النوع القديم وقد احدث صريرا وهو غير مريح ، اذ وجدت جسدي يتحرك يمينا شمالا

وتحولت الى كرسي اخر لم يكن اسوء من الاول لكنني شعرت بطمأنينة عدم السقوط ..كانت جدران الغرفة مليئة بصور النساء شبه العاريات مما يبدو انه قد اختارها من المجلات الفنية المصرية واللبنانية والاجنبية وكذلك للممثلين.. ولكن جل ما اثار دهشتي عندما شاهدت في الجانب الاخر من الجدار

صورا لماركس ولينين وجيفارا وجميلة بوحيرد وتولستوي ودستوفسكي ورامبو والسياب وقد تكدست في زوايا الغرفة مجلات وصحف قديمة بينما تفرقت عبر سريره المظطرب والغير موظب كتبا كثيرة، وهي خليط من الروايات العربية والمترجمة قلت في سري :

يحيرني هذا الرجل المركب !

**

مر ت شهور ولم ار الرجل ، كنت اصغي الى مكانه الشاغرامامي في المقهى ، وصورته التي لا تفارق مخيلتي ، حتى كدت انساه !

*

و في هذا الصباح كان الجو مطيرا ولكن ليس بالسيء والوجوه التي تنحشر داخل المقهى تبدو انها تنعم بشيء قليل من الدفء اما انا فكنت اقلب احدى صحف اليوم ابحث عن مقال كنت قد ارسلته لمسؤل الصحيفة ولكنه لم ينشره ، ولم استاء وقتها لاني اعرف هذا الصحفي مزاجيا ويتعامل بطريقة غير مهنية جادة ، ولكن الحاحه الشديد لي هو الذي حفزني بان ا رسل له هذه المقالة ومن بعدها حسمت موقفي معه !

كان المطر هادئا دافئا ، والريح مافتيئت تداعب اطراف الستائرالمسدلة عبر واجهة المقهى واللغو المنتشرفي المقهى يبدو اليوم ليس كالامس عدا رنين استكانات الشاي التي يضعها النادل على طاولة الزبائن وقد اثار انتباهي منظرا جميلا لامرأة ستينية

تحضن طفلا وهو يتحرك على صدرها ويبدو انه جائعا ،اذ كثيرا مايتشبث بصدر امه محاولا دس يده من فوق اكمام قميص صدرها من الاعلى وهو يمد فمه بقوة وقد اخذه الضجر مأخذا ، مما حدا بالمرأة الى ان تغلق فتحة قميصها بالازرار تماما ولم تنتبه الى الشاب الذي يجلس قبالتها بالضبط وهو ينظر اليها بعينين شرهتين وقحتين اذ يرتدي سروالا قصيرا او ما يسمى ب (الشورت) اسود اللون مخطط بخطوط بيضاء فضفاض وقد جلس بطريقة

مقززة بثني احدى ساقيه وهو يدخن النارجيلة بنهم حيث بان مابين فخذيه دون ان يدري !

تحرك احد الشباب فالتقط صورة له

بجهاز تلفونه الخاص خلسة ، ثم اتجه الى صاحب المقهى مباشرة والذي كان مشغولا بممازحة احدى النساء وهي كبيرة ا لسن ، انيقة الملبس ، تتحدث بلباقة ومما يبدو ان له معرفة بها ، قرب الشاب شاشة تلفونه لصاحب المقهى قال:

ماهذا ؟

اجابه :

ذاك الذي يجلس هناك !

وحرك صاحب المقهى راسه شمالا ، بعد ان وقف منفعلا:

يا للحقارة !

واتجه نحوه ثم توقف امامه قال له:

اجلس عدل يا ولد ..!

نظر الشاب الى صاحب المقهى بنظرا ت خجولة ، وضحك ببلادة ، ثم نهض بحياء ممزوج بالسخط

وهمس باذن صاحب المقهى:

انا هنا جالس بفلوسي !

وحث الخطى مسرعا خارج المقهى !

حولت رأسي الى الرجل الاسطوري ، اذ وجدته يتحدث مع نفسه ، ويدخن بطريقة مضطربة ، رفع راسه الى الاعلى ، يبدو انه شعر بالضجرو قد غزا احساسه ، وقف بكامل قامته ، وزع نظراته عبر الوجوه التي ازدحمت بها المقهى كانه يبحث عن شيء

وترجل صهوة خطواته .. قلت :

يحيرني هذا الرجل .. الم يكن له صاحب !

وقبل ان يصل باب المقهى ، رايت فتاتا يانعة بعمر الزهرة اليانعة ترتدي فستانا قصيرا وقد اطلقت شعرها الاشقر ينسدل على الكتفين ، تناولت يده وقادته نحو الخارج !


مشاهدات 1092
الكاتب مهند الياس
أضيف 2023/12/09 - 6:22 AM
آخر تحديث 2024/07/17 - 9:17 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 277 الشهر 7845 الكلي 9369917
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير