الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رجل التعليم .. الواقع والمستقبل

بواسطة azzaman

رجل التعليم .. الواقع والمستقبل

رشيد سكري

 

-1-

تغيرت الحياة ، ولم تعد كما كانت ، فلا  الأمهات و لا الأطفال  ما عادوا يتسربلون ، نحو المدارس ،  عبر الأزقة والطرقات ، حيث يجدون ذوي البدلات البيضاء ، كالحليب ، ينتظرونهم بوجوه بشوشة ممسوحة بأريج العطر . وفي خفة الأيول يلملمون أغراضهم ، ويفسحون للتلاميذ الطريقَ نحو عوالم المعرفة الفسيح . الحجرات باردة  وبعيدة  ، والطريق إليها  أبعد يتيه بين الشعاب  والخلجان المعتمة ، وبين صواعد و هوابط وطول انتظار  ... أن يصل الأستاذ إلى حجرة الدرس مسافات طويلة يقطعها ، وهو يتفصد عرقا بين أشجار  الصفصاف السامقة و الدفلى ، و بين أسراب الكلاب الجائعة ، التي تشتم رائحة تائهة و معفرة بالتراب .

-2-

أُصدر  ، في الجريدة الرسمية ، القانون الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية و التعليم الأولي والرياضة ، فقوبل بالرفض من كل أطياف المجتمع . فلا النقابات ، ولا الأحزاب ، و لا الجمعيات المدنية قادرة أن تسحب فتيل الاحتقان ، فظل الكل عاجزا  أمام هذا السيناريو  الغريب  ،ولأول مرة منذ ستينيات من القرن الماضي . فالأطفال خارج المدارس العمومية ينتظرون أن يعودوا إلى فصولهم الدراسية ، والأمهات والآباء يقتفون أثر أبنائهم ، ويرفعون شعارات ، أمام المؤسسات التعليمية ، متضامنة مع الأستاذ . ومما زاد من درجة الاحتقان  والتوتر سحبت الثقة  من تحت أقدام النقابات الممثلة للشغيلة التعليمية في مجلس المستشارين ، فبدأت تتساقط كأوراق الشجر في الخريف. إن الدول الحديثة  تترك مسافة قانونية بينها وبين كل الهيئات والأحزاب و النقابات ، التي تساهم بشكل أو بآخر في تنظيم المجتمع ، كي لا يكون الصدام مدويا بين الدولة والشعب . فكلما كان المجتمع منظما و مؤطرا ، كلما سهل التواصل معه ، وبالتالي يصبح مادة طيعة أمام الاختيارات التقدمية ، التي تدفع بالمجتمع نحو الحداثة .

-3-

يكفي إعادة النظر في النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية  الوطنية  و التعليم الأولي والرياضة ، أو سحبه نهائيا ، وإحداث الدرجة الجديدة ،  فضلا عن مراجعة الأرقام الاستدلالية للوظيفة العمومية ، علاوة عن تلبية مطالب كل الفئات ، وحل كل ملفات نساء و رجال التعليم العالقة ، منذ اتفاق 26 أبريل 2011 مع حكومة عباس الفاسي ، كي ننعم بالسلم الاجتماعي ، ودرءا للخطر الذي يحدق بأمتنا المغربية .  وللخروج من عنق الزجاجة  ، على الحكومة أن تعي أن الحوار مفتوح في وجه كل أطياف  وألوان المجتمع  ، والتعامل مع هذا الأخير  ، منظما أفضل من التعامل معه  ، وهو يتخبط في الفوضى و سديم سوء التدبير .                                                                         

-4-

حبى الله المغرب ، قيادة وحكومة وشعبا  ، بموقع استراتيجي يُضرب به المثل في موارده الطبيعية المدرة للدخل القومي . غير أن الملفت للنظر  هو  الخلل في  تعميم  فائدة هذه العائدات بشكل متساو  على عموم المواطنين ، مما يؤثر سلبا على موقع المغرب ضمن دول العالم من الناحية الاقتصادية و الدخل الفردي .  إن التعليم ، في هذا المستوى ، يعد التيرمومتر الحراري للتقدم الاقتصادي  والاجتماعي ، غير أن النوايا الحسنة ، التي تفصح عنها الوزارة الوصية على القطاع ، أصبحت غير كافية . بالرغم من الإرادة  القوية  التي عبر  عنها  العاهل المغربي  في مفتتح كل الدورات التشريعية  من كل سنة ؛ إيمانا منه أن  التعليم القوي  يمنح الهوية والأصالة و التاريخ و التشبث بالقيم النبيلة في سبيل إعلاء  كلمة التقدم ، و الدخول الوازن في زمن الحداثة و التحديث .

فمن بين العديد من المشاريع التنموية ، التي جُلبت إلى قطاع التعليم ، وإن كانت  ذات كلفة باهضة ، باءت بالفشل ؛ لأن اجثتات شتلة  منظومة إصلاح تربوي من وسط أجنبي ، وغرسها في وسط آخر لا تجدي نفعا مادامت هناك إرادة غير حقيقية ، وشفافة لتوسيع دائرة الحوار  بين كل الفاعلين ،  والمتدخلين في حقل التربية  والتكوين . علاوة على ذلك ، فقطاع التعليم ليس كباقي القطاعات الخمس الأخرى ، فالمقاربة التي يجب أن يباشر  بها المسئولون الإصلاح يجب أن تراعي خصوصية القطاع ، فضلا عن ، إشراك كل المتدخلين المباشرين وغير المباشرين ، والمعالجة يجب أن تكون على قدم وساق بين كل فعاليات المجتمع المدني .

فالأستاذ عندما ينجز درسا أمام الطلبة ؛ فإنه يخاطب فيهم الذاكرة  والخيال و المتخيل و النفس  والروح و الشعور  والإحساس ، وما إلى ذلك من المكونات  النفس البشرية  ، لذا فالتعليم ، كقطاع استراتيجي وحيوي ، يميل أكثر إلى العلوم الإنسانية  منه إلى العلوم البحثة .

-5-

إن الاعتناء بصورة المدرس، والحفاظ على هيبته في المجتمع ، أصبحت ذات  أهمية قصوى للنهوض بالتربية و التعليم في بلادنا . فالدول المتقدمة تنزّل المدرس منزلة رفيعة لتأثيره المعنوي  والبسيكولوجي في الناشئة ، وكل ما يحيط به في المجتمع . لا لغاية إلا من أجل أن يؤدي رسالته بأمانة . فالتحضر  والحداثة تقضيان  بتخفيف الأعباء عن كاهل المدرس من التزامات ذاتية و غيرية ، واستفادته اللامشروطة من الخدمات الاجتماعية ، التي تعرقل مسيرته المهنية و تشوش على عطائه الفكري . فنحن واعون بمدى الحيف الجائر الذي يعانيه المدرس المغربي داخل منظومة التربية والتكوين ، وما النظام الأساسي إلا  تلك الصورة المصغرة عن هذا الشطط ، الذي يتعرض له رجل التعليم ، حيث خصصت الوزارة الوصية صفحة ونصف من العقوبات التأديبية الحاطة من كرامة المدرس ، مخالفة بذلك كل العقوبات المنصوص عليها  في الوظيفة العمومية  . إن هذا الفعل يثبت ، وبالملموس ، مدى جدية الرؤية المجانبة للصواب الموجهة لرجل التعليم بالمغرب ، كما لو أرادت أن تثبت أن تدهور منظومة التربية والتعليم ببلادنا ، ككل ، يرجع بالأساس إلى المدرس ، و يتحمل فيه هذا الأخير ،  النصيب الأوفر  ، إذا لم نقل إنه المتورط الوحيد في هذا المستنقع الضحل  .  كما أن الترويج  وبناء المتخيل عبر وسائل الإعلام المأجورة ، وخلق تلك الصورة السلبية ،التي انطلت على رجل التعليم لعقود من الزمن ، يزيد من استفحال الوضع ، ويدخل المغرب في نفق مظلم .

هنا يمكن أن نطرح سؤالا جوهريا مفاده : من المستفيد من هذا الوضع غير الصحي لرجل التعليم بالمغرب ؟

-6-

إن الاختلاف صحيٌّ في كل المجتمعات ، وهو مؤشر عن مدى التنوع الفسيفسائي الذي يغذي الديناميكية و الحيوية .

و السير قدما ، قيادة وشعبا ، نحو الحداثة المجتمعية ، التي يطمح إليها المغرب ، خصوصا  وأن هذا الأخير  فسح مشاريع ضخمة أمام الاستثمارات الأجنبية برساميل ضخمة بهدف  النهوض الصناعي والتكنولوجي الفعلي والاقلاع الحضاري ، والاصطفاف إلى جانب الدول المتقدمة . والتنافس الشريف على الأسواق العالمية لإثبات الذات  والهوية ، و مسح تلك الصورة السلبية عن المغرب الذي ، في اعتقادهم ، لازال يتدرج ببطء ضمن منظومة الدول السائرة في طريق النمو . وهذه الصورة تعتمل في الخفاء ، لا يجب أن ننكر دور منظومتنا التعليمية العمومية بالخصوص ، بالرغم من الإكراهات و المثبطات ، التي تحول دون بلوغها للأهداف المرجوة

آن الأوان لتغيير  تلك النظرة السلبية و النمطية التي قوبل بها  المدرس ، وألصقت به لعقود ؛ لأنه – أي المدرس – أضحى بالفعل قاطرة حقيقية للنهوض المعرفي و الأخلاقي ، وما هدم هذه الصورة إلا هدم للقيم  والأخلاق النبيلة التي ، أكيد ، ستضيع علينا سنوات من السير الحثيث في اتجاه الحداثة الفكرية والأخلاقية و الثقافية أيضا  .          


مشاهدات 647
الكاتب رشيد سكري
أضيف 2023/12/04 - 3:28 PM
آخر تحديث 2024/07/15 - 7:32 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 331 الشهر 7899 الكلي 9369971
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير