الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أنا‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬منفاي‭

بواسطة azzaman

أنا‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬منفاي‭

عباس الحسيني

 

لم‭ ‬يكن‭ ‬امام‭ ‬ادوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬المفكر‭ ‬والاكاديمي‭ ‬والمنفي‭ ‬ايضا،‭  ‬إلا‭ ‬ان‭ ‬يغازل‭ ‬عبثية‭ ‬المقام‭ ‬الابهى‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬الوطن‭ ‬،‭ ‬او‭ ‬اليوتوبيا‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬المكان‭ ‬فكرة‭ ‬متجلية‭ ‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ايديولوجيا،‭ ‬حيث‭ ‬تنبه‭ ‬قليلون‭ ‬إلى‭ ‬خطر‭ ‬تاثير‭ ‬المكان‭ ‬على‭ ‬النمط‭ ‬التفسيري‭ ‬لبني‭ ‬الإنسان‭ ‬،‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬المحاكمة‭ ‬العادلة‭ ‬تتطلب‭ ‬جرحا‭ ‬بليغا،‭ ‬وحقيقيا‭ ‬واكتراث‭ ‬،‭ ‬بما‭ ‬يعلق‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الإنسانية‭ ‬كما‭ ‬النسغ،‭ ‬مع‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الاسى‭ ‬والانفصال‭ ‬عن‭ ‬المركز‭  ‬،‭  ‬وهكذا‭ ‬تطورت‭ ‬فكرة‭ ‬المكان‭ ‬جدليا‭ ‬ليكون‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭ ‬

الجواهري‭ ‬

‭”‬وردنا‭ ‬ماءَ‭ ‬دجلةَ‭ ‬خيرَ‭ ‬ماء‭ ‬وزرنا‭ ‬أشرفَ‭ ‬الشجر‭ ‬النخيلا

‭” ‬أبغدادُ‭ ‬اذكري‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬دموع‭ ‬أزارتكِ‭ ‬الصبابةَ‭ ‬والغليلا

في‭ ‬حين‭ ‬يبادر‭ ‬آخر‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬المكان‭ ‬هو‭ ‬جنة‭ ‬الاخر‭ ‬،‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬المتن‭ ‬الفرنسي‭ ‬لجان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ ‬في‭ ‬تشاؤمه‭ ‬المؤلم‭  : ‬

الآخرون‭ ‬هم‭ ‬الجحيم

وقتل‭ ‬شاعرنا‭ ‬متغزلا‭ ‬بصبابة‭ ‬المكان‭ ‬على‭ ‬انه‭ ‬الآخرون‭: ‬

رعى‭ ‬الله‭ ‬اياما‭ ‬تقضت‭ ‬بقربكم

‭ ‬كاني‭ ‬بها‭ ‬قد‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬جنة‭ ‬الخلد‭ ‬

وهكذا‭ ‬يحتج‭ ‬ديك‭ ‬الجن‭ ‬والمعتزلي‭ ‬البغدادي‭ ‬،‭ ‬الذي‭ ‬اكتشف‭ ‬فجأة‭ ‬ان‭ ‬الإنسان‭ ‬إذا‭ ‬غادر‭ ‬وطنه‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬غادر‭ ‬عمره‭ ‬كله‭ ‬،‭ ‬دون‭ ‬عودة،‭ ‬حيث‭ ‬ينسى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاجيال‭ ‬المتعاقبة‭ ‬والاهل‭ ‬والأصحاب‭ ‬والأحداث‭ ‬،‭ ‬ككنيسة‭ ‬مهجورة‭ ‬،‭ ‬او‭ ‬حبة‭ ‬في‭ ‬الرمل‭ ‬،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬درويش‭ ‬،‭ ‬

المنفى‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نختره‭ ‬ولم‭ ‬نفكر‭ ‬به‭ ‬،‭ ‬اصبح‭ ‬الان‭ ‬وطنا‭ ‬لنا‭ ‬،‭ ‬وما‭ ‬ان‭ ‬نغادر‭ ‬بلادنا‭ ‬الاولى‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬نفينا‭ ‬منها‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬نكتشف‭ ‬ان‭ ‬طريق‭ ‬العودة‭ ‬محفوف‭ ‬باللا‭ ‬هوية‭ ‬وباللا‭ ‬سعادة‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬اللغة‭ ‬المغامرة‭ ‬والذاكرة‭ ‬الراسخة‭ ‬والرموز‭ ‬التي‭ ‬تتقلب‭ ‬معنا،‭ ‬مثلما‭ ‬يعانق‭ ‬شبح‭ ‬صورة‭ ‬محتواه‭ ‬

وهكذا‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي‭ ‬باي‭ ‬الحواس

‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬خواء‭ ‬الذاكرة‭ ‬بقوله‭ ‬

وتلفَّتت‭ ‬عيني‭ ‬فمذ‭ ‬خَفِيَت

عني‭ ‬الطلول‭ ‬تلفت‭ ‬القلبُ

وقيل‭ ‬ان‭ ‬الرؤية‭ ‬هي‭ ‬غير‭ ‬النظر‭ ‬وان‭ ‬النظر‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬البصر‭ ‬،‭ ‬فعندما‭ ‬يقال‭ ‬نظر‭ ‬فلان‭ ‬ان‭ ‬انه‭ ‬حرك‭ ‬جهازه‭ ‬البصري‭ ‬إلى‭ ‬هدف‭ ‬النظر‭ ‬،‭ ‬غير‭ ‬ان‭ ‬البصر‭ ‬او‭ ‬ادراك‭ ‬الشي‭ ‬،‭ ‬ومنها‭ ‬ادراك‭ ‬الذاكرة‭ ‬للمكان‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬فشل‭ ‬الشاعر‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي‭ ‬ان‭ ‬يبصرها‭ ‬بعينيه‭ ‬،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬ان‭ ‬بصرها‭ ‬بقلبه‭   ‬فتلفت‭ ‬القلب‭ ‬والذي‭ ‬ظن‭ ‬العرب‭ ‬لاجيال‭ ‬انه‭ ‬الجهاز‭ ‬الدموي‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬غشي‭ ‬ذاكرة‭ ‬المكان‭ ‬قلب‭ ‬الحدث‭ ‬،‭ ‬فعد‭ ‬القلب‭ ‬اول‭ ‬نتيجة‭ ‬عقلية‭ ‬تدرك‭ ‬الأشياء‭ ‬ولا‭ ‬تدركها‭ ‬الاشياء‭ ‬،‭ ‬ولعل‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬يحسد‭ ‬محنة‭ ‬سعدي‭ ‬يوسف‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬

يوم‭ ‬انتهينا‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬انتهى‭ ‬

وهو‭ ‬يئن‭ ‬الما‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬بن‭ ‬بركة‭ ‬وعن‭ ‬جيل‭ ‬اثر‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬المغيبين‭ ‬والمنفيين‭ ‬والمبعدين‭ ‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ان‭ ‬يصار‭ ‬إلى‭ ‬ملاحقة‭ ‬المنفيين‭ ‬على‭ ‬انهم‭ ‬خونة‭ ‬واعداء‭ ‬لذاكرة‭ ‬المكان‭ ‬الاول‭ ‬،‭ ‬لكي‭ ‬يتم‭ ‬نفيهم‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬منفاهم‭ ‬الاول‭ ‬،‭ ‬وتتعدد‭ ‬المنافي‭ ‬وتتعد‭ ‬اسماء‭ ‬المنفيين،‭ ‬ويبرز‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬صراخ‭ ‬الداخل‭ ‬وعبثية‭ ‬المنادي‭ ‬وهي‭ ‬المنخوليا،‭ ‬او‭ ‬السوداوية‭ ‬التي‭ ‬تطغى‭ ‬على‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬لا‭ ‬احد‭ ‬

نعم‭ ‬انه‭ ‬الحنين‭   ‬فثمة‭ ‬غبار‭ ‬كوني‭ ‬يغطي‭ ‬كوكب‭ ‬الارض‭ ‬بغيم‭ ‬ابيض‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرة‭ ‬مكانية‭ ‬متطايرة‭ ‬،‭ ‬واذا‭ ‬اعتصر‭ ‬الغيم‭ ‬تحول‭ ‬الحلم‭ ‬إلى‭ ‬وابل‭ ‬مكافئ‭ ‬للبكاء‭ ‬،‭ ‬هكذا‭ ‬ظن‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬منفاه‭ ‬الابدي‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬يكتب‭ ‬الحرب‭ ‬والسلام‭ ‬،‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬الخيوط‭ ‬الاولى‭ ‬للنهج‭ ‬الإنساني‭ ‬،‭ ‬وكيفية‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬إنسان‭ ‬بذاكرة‭ ‬وحلم‭ ‬ولذة‭ ‬وضمير‭ ‬،‭ ‬إلى‭ ‬قاتل‭ ‬وطاغية‭ ‬ومتجرد‭ ‬من‭ ‬الضمير‭ ‬والرأفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬،‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬نسير‭ ‬عليه‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬نشيده‭ ‬،‭ ‬وهما‭ ‬ابعد‭ ‬وعيا‭ ‬عن‭ ‬المنفى‭ ‬الابدي‭ ‬الذي‭ ‬عدنا‭ ‬اليه‭ ‬بلا‭ ‬هوية‭ ‬لكي‭ ‬نبقى‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬صلابة‭ ‬الارض‭ ‬وهشاشة‭ ‬أحلامنا‭ ‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬لنا‭ ‬سوى‭ ‬ان‭ ‬نحلم‭  ‬وان‭ ‬نكون‭ ‬بلا‭ ‬هوية‭ ‬ثقيلة‭ ‬الوطأة‭ ‬وباهضة‭ ‬التكاليف‭ ‬،‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬بذخ‭ ‬وخروج‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬،‭ ‬وليس‭ ‬لنا‭ ‬نحن‭ ‬العبيد‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نخبئ‭ ‬رؤوسنا‭ ‬في‭ ‬تراب‭ ‬المنفى‭ ‬وان‭ ‬ننشد‭ ‬خلسة‭ : ‬يا‭ ‬دار‭ ‬دوري‭ ‬فينا‭ ‬،‭ ‬او‭ ‬ان‭ ‬نتجرع‭ ‬مرارات‭ ‬الجواهري‭ ‬وهو‭ ‬يذوي‭ ‬جوا‭:‬

حييت‭ ‬سفحك‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬فحييني‭ ‬


مشاهدات 611
الكاتب عباس الحسيني
أضيف 2023/12/02 - 11:52 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 12:52 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 401 الشهر 11525 الكلي 9362062
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير