الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الجينات بريئة

بواسطة azzaman

الجينات بريئة

عبدالمنعم الاعسم

الكثير من اصحاب الرأي يرون ان المجتمع العراقي معتدل في اصوله وسلوكيات شرائحه المختلفة ويشيرون بذلك الى احداث مرّت ومراحل تاريخية مجتزَأة من سياقها التاريخي لتأكيد هذه القراءة التي لا تستقيم تماما مع المدونات الموثقة، لكن، في كل الاحوال، ما يهم هو الحقيقة الماثلة امامنا: ان تطرفاً يضرب الآن كل المكونات التي يتشكل منها الحاضر العراقي، ثقافة وسلوكا، وتبرز في كل مكون «حافات» تنزلق الى مستنقع التجييش وشعارات تدمير الآخر، حيث تبرز الحاجة الى بحث هذه الظاهرة وترسيم مصادرها والاثر الذي ستتركه على مستقبل العراق على الخارطة كدولة وسبل درئها.

يقال، هنا، ان الجينات مصدر لـ «اصالة» هذا التطرف والعنف في ثقافتنا وسلوكنا، ويبدو ان شيئا من هذا صحيح، معبرٌ عنه في محاولات الهروب من الحلول العلمية لمشاكلنا الى نقيضها، الخرافة، كما يتجلى ذلك في «طفرات» اجتماعية حدثت في امزجتنا في مجرى التاريخ. في هذا يذكر الطبري ان سلطانا قرر بناء مسجد له في دمشق فأمر ان يأتيه كل رجل (من سكان المدينة والمقيمين فيها) بلبنة واحدة، ففعلوا، إلا عراقيا كان يأتيه بلبنتين.. فقال له السلطان: «يا أهل العراق، تبالغون في كل شيء، حتى في الطاعة».

امم كثيرة انخرطت في دوامات العنف، ولم يبحث علماؤها اثر تلك الدوامات في الكروموزومات، بل ولم يدخلوا (كما ندخل نحن) في مقارنات بين عدد الضحايا وعدد التفجيرات، مثل قولنا: حمدا لله، اليوم فقط تفجيران وقتيل واحد. «حميد جا» شاعر من سراييفو كان يردد في فزع من مشاهد الجثث: «كم هو غير لائق، وكم هو سخيف، ان نقارن بين درجات العنف واعداد الموتى» اما تقارير الامم المتحدة الدورية عن الاحوال الامنية في العراق خلال ما يسمى بايام الطائفية بعد العام 2006 ، فان عبارة «تراجع اعداد الضحايا في الهجمات الارهابية» كانت تثير فينا نوعا من الارتياح، على الرغم ان بين الضحيا (المتراجع عددهم) أمّ واب وثلاثة من ابنائهم، ولم يبق من العائلة غير طفلة بعمر اربع سنوات، فما هو معنى ارتياحنا ذاك حينذاك؟.

«الجين الأناني» كتاب اصدره العالم البريطاني ريتشارد دوكين منذ سنوات يذهب الى القول «ان كل شيء مكتوب في كروموزوماتنا» وتضمن رصدا عن تأثير الجينات على التكوين البشري ما اعتبر من قبل كتاب غربيين تقدميين انه «فاشية جديدة «محسنة» لكن، في كل الاحوال لا نستطيع القول بان الجينات بريئة تماما من عصبيات العنف والتجييش المنفلتة من الذات العراقية، في ظروف تتسم بالاضطراب والنزاعات والتدخل الخارجي واعمال الارهاب، لكن الكثير من المعاينات توصلت الى حل وسط يميز بين تأثير الجينات وتأثير البيئة، وذلك في تتبع الكثير من الدراسات التي قللت من مكانة الجينات في سلوك الانسان، واعطت للبيئة دورا في جملة مكونات الشخصية، من دون ان يحسم العلماء الاولوية في التأثير بين الجينات والبيئة.  دراسة سابقة في مجلة «المراهقة» الامريكية لفريق من العلماء ربطت بين السلوك العنفي للفرد وبين المواد الكيميائية العصبية في الدماغ، وقد وجد أن لها تأثيرا على «الشخصية» خاصة اثرها المباشر على القوى العقلية - مثل القلق والاكتئاب والانفصام. والحقيقة ان مناصري المؤثرات الجينية في تحديد السلوك البشري قد وجدوا في مثل هذه النظريات ضالتهم واعتقدوا ان مصدر كل السلوك البشري لا بد ان يكون جينيا وراثيا.

لكن الباحثة «ماريام فيرد» في العام 2010 نفت صحة هذا الاستنتاج واعلنت بهذا الصدد  أن دماغ الإنسان والشمبانزي يكونان بنفس الحجم عند الولادة. وان دماغ الشمبانزي ينمو بنسبة 28 بالمئة عند سن البلوغ، بينما ينمو دماغ الإنسان بزيادة تقدر بنسبة 300 بالمئة, وهذا يعني ان معظم اجزاء ادمغتنا تنمو وتكبر بعد الولادة وان البيئة هي المسبب لذلك.

العنف الذي ضرب مجتمعنا بحاجة الى دراسات متخصصة، وفي كل الاحوال، ينبغي ان نتعلق بامل انحسار الارهاب وتحسن الظروف البيئية لكي تعود النفوس الى مربع التعايش.. وتعود القطعان المنفلتة الى الغابة.

 


مشاهدات 882
الكاتب عبدالمنعم الاعسم
أضيف 2023/11/25 - 1:10 AM
آخر تحديث 2024/12/04 - 12:50 PM

أخبار مشابهة
تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 85 الشهر 1842 الكلي 10057937
الوقت الآن
الخميس 2024/12/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير