الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قصص علي اليوسفي.. إضطراب الرؤية السردية في ( حسناء الإذاعة )

بواسطة azzaman

قصص علي اليوسفي.. إضطراب الرؤية السردية في ( حسناء الإذاعة )

محمود خيون

 

يحاول الكاتب عبد علي اليوسفي في مجموعته القصصية( حسناء الإذاعة ) أن يسلط الضوء على ثيمة الوجع الإنساني ومتاهات الروح بين ما تريد وبين ما يذهب منها من أحاسيس ومشاعر تكون هي مقياس الحزن والفرح داخلها ،متخذة من مصدات القهر الإجتماعي اليومي وخيبات الأمل وضياع الحلم الذي لطالما أرادت أن يتحقق ولو حتى في ذاته المعيار الرئيس لدوامة العنف التي يدور في رحاها الناس وعلى الرغم من إرادتهم وما يحلمون في تحقيقه...ويتضح ذلك الأمر جليا في موضوعات القص لديه بكل تفصيلاته التي تنعكس فيها صور المأساة الحقيقية لجميع أبطالها وتظهر فيها أيديولوجية الحدث و افرازاته وتشعباته بما يتحدث فيه وبضمير الغائب بالنسبة للرواي والبطل عن سرديات وحكايا قد توهم القاريء والدارس بأن هناك شخوصا يتحركون ضمن مساحة معلومة ومضطربة لا تتعدى حدود الحكاية وتفصيلاتها وهذا الأسلوب أستخدمه الكثير من كتاب القصة في مرحلة السبعينيات ومنهم فؤاد التكرلي وعبد الرحمن الربيعي وأحمد خلف وعبد الستار ناصر وخضير عبد الأمير وحسب الله يحيى وعلي خيون ونزاز عباس وكمال لطيف سالم وموسى كريدي وغيرهم...

وفي هذا السياق يؤكد الباحث ميشال بوتور القول( ومما لا نزاع فيه أن على القصة أن تنظر إلى المجتمع بكامله، لا من الخارج كأنه جمهور ننظر إليه بعين شخص منفرد، بل من الداخل كأنه شيء ننتمي إليه، شيء لا يستطيع الأفراد مهما بلغوا من الغرابة والسمو أن ينفصلوا عنه تماما )..

ومن هنا نرى أن أعمال الكاتب المصري نجيب محفوظ اتسمت بطابعها الشعبي والمحلي...والقاص عبد علي اليوسفي يعيد إلى الأذهان بأكثر من نص قصصي ضمن مجموعته ( حسناء الإذاعة ) تلك الأيام العصيبة التي عاشها الناس خلال الحرب الضروس ويجسد ذلك في قصة( أنا غاتسبي) بالوصف( اتنسى السنوات الطويلة التي قطعناها في المفازات والحروب والجوع والتشرد والاسر، القصف والتفجيرات والتفخيخ..) أو في قصة( ردهة الضابط) ..( كان هجوما عنيفا..مطر وظلام ورائحة دغل وتراب وماء، نقيق وضفادع وطيور نافقة، أشجار عملاقة مقصوصة الأغصان..رصاص وبارود قذائف ومديات وحراب، الشظايا تنطلق من كل مكان...من الوراء والامام من فوق ومن تحت وكل شيء يتمزق، الجنود والطيور والكلاب..)

بهذا المشهد الصاخب يصف لنا عبد علي اليوسفي أجواء ساحة المعركة وسط لهيب النار ودوي القذائف وتناثر الجثث وأعمدة الدخان والحرائق...ثم يصف لنا حالة الضابط الذي أصابته قذيفة بساقيه..( تخيلته يحلم برائحة الأشجار والعنبر والمسك والأقراص الوردية التي تجلبها له المرأة السمراء الممتلئة، يحلم بالركض في الساحات الخضراء والمشي على شواطيء انهر المدن الجميلة..نظرت إلى نعليه وبسطاله تحت السرير...قلت مع نفسي : لن يحتاج الأحذية في تجواله القادم )..بهذه الصورة المأساوية ينهي الكاتب قصة الضابط الجريح ...وكما في قصة( حسناء الإذاعة ) التي تحمل إسم المجموعة( البناية محترقة ومهدمة...الحيطان يعلوها السخام والدخان والغبار..ثمة( شفل )أصفر هائل يزيل بقايا إنفجار هائل، على ما يبدو من هول التدمير...اقارب مني أحد الحراس بوجهه العابس مستفسرا عما أريد قلت: لاشيء ،عدت ادراجي مبتعدا من رئتي المحترقة تلك، متجها صوب كراج العودة إلى قريتي، تتهاوى ملامح مذيعتي الحسناء مع تهادي الدخان المتصاعد ورائي!)..

ومما تقدم لقد اتضحت الفكرة الأساسية لمضامين القص الذي أراد الكاتب عبد علي اليوسفي أن يؤكد فيه حقيقة الحال المريب الذي مرت به البلاد من حروب وتفجيرات وقتل وضحايا في ظل واقع مرير وضياعات ومتاهات عصفت بالبلاد والعباد. بأستثناء عدد من القصص التي كانت لها مضامين إجتماعية تخص سايكولوجية الإنسان وعلاقاته الإجتماعية مثل( صفير الشجرة وحطب الذاكرة وصديق الطيور وظلال الذاكرة  نص في المكان العودة إلى المجر ) ...

أقول لقد إستطاع القاص ومن أبطال قصصه أن يصور لنا حالة القهر والكبت الإجتماعي الذي تعيشه الناس وتتقاذفها رياح اليأس بأن لا خلاص يلوح في الأفق لتتجلى بعده صورة مشرقة من صور الحياة الرغيدة التي يتمكن من خلالها الجميع تحقيق ما يصبون إليه من اطمئنان وراحة البال....ولكن يبدو أن الكاتب لا تتراءى أمام انظاره غير صور البؤس مثلما تحدث في قصة( الرجوع للنخلة والنهر ) التي أهداها إلى عبد الأمير المجر وصور الحالة بالقول والوصف ( قلق المجري بعض الشيء لاختفاء إبنه( سلمان) مد بصره لأقصى مدى من الرؤية، ولما لم يره تسأل وجلا وهو يمسح لحيته كمن يفكر بشيء لا اجابة له: أين ذهب ؟!: فترة صمت خذها بسهولة تفكر ثم تساءل بحرقة ثانية: أهو قربان آخر لحرب قادمة؟)...

بهذا المشهد وغيره يعيد لنا الكاتب عبد علي اليوسفي، الصور الأكثر مأساة ودموية عاشها الناس بين عرانيس الذرة والخبز الأسود والتي كان ثمنها تقديم المزيد من القرابين...ويبدو أن تجربة الحرب عنده كانت مريبة وعنيفة في صداها وعمقها الذي ظل هاجسا للخوف والقلق المستديم دائم الظلال عند تجدد الرغبة لديه في الشروع بكتابة قصة الحرب التي تشعل لديه جوانب من ذاكرته المحملة بصور الدمار والمزكومة برائحة البارود وإحساس الخوف.

 


مشاهدات 1539
أضيف 2023/01/16 - 7:40 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 2:40 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 404 الشهر 11528 الكلي 9362065
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير