الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
انغمار بيرغمان.. جدلية الروح والعزلة والبقاء عبر شخصيات الافلام

بواسطة azzaman

انغمار بيرغمان.. جدلية الروح والعزلة والبقاء عبر شخصيات الافلام

فاروق سلوم

 

كان الفنانين العراقيين والسينمائيين منهم بشكل خاص والمهتمين من الجمهور بالسينما يحضرون العروض الخاصة التي تنظمها المراكز الثقافية في بغداد بشكل كبير .

وكان المركزالثقافي الروسي و الفرنسي واحيانا المركز البريطاني ، تنظم عروضا خاصة ً لأعمال المخرج السويدي انجمار بيرغمان . وكانت سينما غرناطة في بغداد ايضا  ، تقدم اعمالا مختارة للكثير من المخرجين المتميزين في السينما الأمريكية والواقعية الأيطالية والواقعية الأشتراكية والموجة الفرنسية الجديدة وبينهم تعرض افلام المخرج السويدي انجمار بيرغمان الذي عُرف بأخراجه اعمالا سينمائية غامضة تتميز بتقنية فنية عالية وبأيقاع فني خاص جعل الكثير من المتخصصين يطلقون عليه اسم " السويدي الكئيب". حصل ذلك بسبب اجواء افلامه وتقنياتها الكابية.

 لقد اتت تلك التسمية " السويدي الكئيب" نتيجة لمميزات افلامه وايقاعها البطيء، و لفرط ما يمثل ذلك الأيقاع البطيء للفلم ، واجواء اللقطة الداكنه والحوارات الرمزية ولغة الجسد في التمثيل من خصوصية دلالية وفنية ماجعل النقاد والمتخصصين يطلقون تلك التسمية الكئيبة لفرط قرب تلك الأجواء السينمائية من الواقع السويدي اليومي الكئيب ، ولأنعكاس حياة المخرج الشخصية منذ الطفولة والشباب وماشابهما من معاناة تحت سطوة والده المتدين واخيه فيما بعد ، ما اثرعلى اعماله السينمائية التي لفتت الأنظار ورشحت افلامه عدة مرات لجوائز السعفة الذهبية والأوسكار وجوائز اخرى سينمائية معروفة.

افلام جميلة

كان انغمار بيرغمان خلال تجربته السينمائية قد انجز اخراج اكثر من خمسة وخمسين فيلما مميزا خلال مسيرته الفنية . وهو اذ يعتبر واحدا من ابرز المخرجين الذين انتهجوا منهجا فنيا وفلسفيا في الأخراج السينمائي قد حاز على شهرة خاصة وواسعة في العالم . أخرج بيرغمان افلاما يعرفها الجمهور الثقافي العراقي ، بما فيها عدد من الروائع، مثل فلم" التوت البري" و "الختم السابع ، وضوء الشتاء ، وعبر زجاج مظلم ، وصيف مع مونيكا و صرخات وهمسات ، والصمت ، ومشاهد الحياة الزوجية وفلم برسونا واعمالا وثائقية وسلاسل تلفازية ومسرحيات سجلته كشخصية فنية عالمية مؤثرة  ومتميزة . لقد مثلت رؤيته الأخراجية وايقاعها وسكونها وكآبتها التي تمثل بعمق الصمت والكآبة السويديين الذين جعلا السويد تتخذ مكانة في جداول المنظمات الدولية التي تقيس حالات الأنتحار في دول العالم . والحق ان التقارير الأخيرة تحدثت عن تحسن وضع السويد في التقارير الدولية الأخيرة للأنتحار حيث احتلت هذه الدولة الموقع السادس والعشرين .

 وكان اخر المنتحرين السويديين من الشخصيات العامة المخرج السينمائي مالك بن جلون السويدي من اصول جزائرية بعد خمسة ايام من حصول فلمه الشهير" البحث عن رجل السكر" على جائزة الأوسكار .وهناك فلسفة اجتماعية حول البقاء والحياة والموت تنطوي على الكثير من التوافق الأجتماعي بأن ثمة ماينبغي العيش من اجله برغم الكآبة واللون الكابي في اجواء ومناخ السويد . وتبدو وجهة النظر هذه اكثر تعبيرا في افلام المخرج انغمار بيرغمان ، حيث اعتبر اكثر صدقا في التعبير عن مناخ السويد الكابي و " الصمت" السويدي و هي الكلمة الأكثر التصاقا باللغة السويدية التي تمتدح الهدوء والصمت كميزتين تذكران لأمتداح منطقة السكن او طريقة العيش الهادئة .

وتظهر افلام بيرغمان تلك الكآبة المهيمنة والعزلة الفردية وانحسار العلاقات الأجتماعية وميل الفرد داخل عائلته الى العزلة شخصيا واجتماعيا بشكل نقدي عميق.

كان بيرغمان لايتردد في ذكر تأثيرات حياته في الطفولة تحت سطوة والده رجل الدين المتشدد والقاسي كما كانت والدته تمثل بالنسبة اليه اكثر صور البرود السويدي الكابي ، وكانت طفولته مقموعة حتى بتأثيرات اخوه الأكبر الذي يبدو انه كان متسلطا ، ولذلك ترسخت تلك اللمسة الكئيبة في افكار واعمال وكاميرا وتقنيات الأخراج عند بيرغمان ليبدو في افلامه اكثر سويدية ً بالتعبير الروحي للعزلات والفردية والانطوائية الأسكندنافية.

كان الأتجاه نحو البيئة الفنية هو الحل الذي يخرج بيرغمان من معاناته منذ طفولته فأهتم بالفوتوغراف والرسم ودمى التحريك وافلام  الماريونيت ايضا لكنه بعد ان تدرج في جامعة استوكهولم ودرس الأدب والفن انطلقت امكانياته لتنفيذ افلامه الروائية الشهيرة التي اشرنا اليها في مقدمة المقال هنا .

لقد كانت شخصيته المضطربة واهتماماته المتضاربة بالمرأة وقلقه اليومي واهتمامه بالأدب والموسيقى والفن التشكيلي قد اظهرت عناصره الروحية والنفسية التي انعكست على افلامه وعلى السيناريوهات التي كتبها ايضا . وكانت افلامه اكثر روحية تنطوي على ذلك التفرد الصوفي والأنخطاف الروحي والتناغم الأثيري مع شخصيات استلهم سيرتها في افلامه . ولذلك شكل انغمار بيرغمان في البيئة الثقافية السويدية منذ اوخر الخمسينات حتى وفاته عام 2007 بأعتباره رمزا ثقافيا حداثيا وظف الأدب والموسيقى والفنون في اعماله السينمائية حتى ظهر كأقرب شخصية ثقافية لجمهرة الفنانين والكتاب والفنانين السويديين بل تجاوز ذلك الى معظم المهتمين بالبيئة الثقافية والأنتاج السينمائي في كل بلدان العالم .

وفي عقد السبعينات ارتبط انغمار بيرغمان عاطفيا بالممثلة السويدية الأصل - الأمريكية انجريد بيرغمان وكانت الممثلة تشعر مع هذا المخرج بأن حياتها واضحة وبسيطة مع انجمار بيرغمان ،بعد مغامرات ومشاكل حول ارتباطها بالمخرج الأيطالي روبيرتو روسلليني بينما كانت في عهدة رجل سويدي اخر قبل الطلاق منه . كانت انجريد بيرغمان قد حصلت على ثلاث من الجوائز الأكاديمية - الأوسكار . وامضت اهم سنواتها بالقرب منه في جزيرة"فورو" التي سكنها المخرج وقبل وفاتها عام 1982? وفي هذه الجزيرة في بحر البلطيق اختار انجمار بيرغمان ان يسكن هناك منذ عام 1960 وانتج العديد من افلامه هناك حيث ارتبط بتلك الجزيرة مكانا لعزلته وانتاجه وحتى مدفنه فقد دفن في نفس قبر انجريد بيرغمان الممثلة التي اعتبرت ثالث اسطورة فنية في هوليود .

حكاية جزيرة "فارو"

هي جزيرة صغيرة تبلغ مساحتها 113 كيلومترًا مربعًا في بحر البلطيق ، وترتبط بالعبّارة مع جارتها الأكبر ، جوتلاند. مناظرها الطبيعية مميزة: الجزيرة بأكملها مكونة من صخور كلسية ، مع مساحات من الأراضي الزراعية تتخللها مناطق شجيرات قصيرة بشكل يفتح افق الرؤية..

وقبل وصوله إلى جزيرة "فارو "، كان إنغمار بيرغمان متشككًا قلقا إلى حد ما وهو يبحث عن مواقع التصوير لفيلمه " عبر زجاج داكن"  وقد اشار عليه عدد من اعضاء فريقه لمشاهدة جزيرة فارو ،والقاء نظرة على الأقل ، وبخاصة انه مكان لم يسبق له زيارته من قبل. وهكذا كان لقاءه مع الجزيرة التي غيرت حياته فرط اعجابه واحساسه بالسكينة فيها . وقد كرر اكثر من مرة قائلا. . "إذا رغب المرء في أن يكون مهيبًا ، فيمكن القول إنني وجدت منظرا طبيعيا يمنحني تلك الصفة ، وقد وجدت بيتي الحقيقي هنا ؛ وإذا رغب المرء في أن يكون مرحًا ، فيمكنه التحدث عن الحب من النظرة الأولى وذلك ينطبق على محبتي لهذه الجزيرة ." وبعد اختياره تلك الجزيرة انتج فيها ستة افلام مهمة ومسلسلا تلفزيونيا بما في ذلك فيلم عبر زجاج داكن المعروف .

منزل كبير

قام بيرغمان بعمل فيلمين وثائقيين عن الجزيرة وسكانها ثم اكتشف مساحةً من الأرض قريبة من البحر حيث تمكن من شرائها فيما بعد وبنى  منزلًا كبيرا ينطوي على اقسام تساعد في اشغاله السينمائية. مكث هناك بقدر ما تسمح به مهامه في العاصمة حتى عام 2003 ? حيث باع شقته في ستوكهولم وانتقل بشكل دائم إلى جزيرة فارو. ونادرًا ماكان يغادر الجزيرة منذ ذلك الحين. حيث بنى مركزا لإنتاج أفلامه واقام معظم سنواته الأخيرة ..

عندما جاء بيرغمان إلى الجزيرة لأول مرة ، شعر أنه وجد منزله الحقيقي بل انه كما يبدو اوصى ان تكون مدفنه .

وكان يردد انه من البديهي ان يبدو المكان الذي تحبه ليمثل المشهد الخاص بك ، و إنه يتوافق مع أعمق تخيلاتك للأشكال والنسب والألوان والآفاق والأصوات والصمت والأضواء والانعكاسات التي تدخل في قلب بصيرتك السينمائية. ويتابع القول " ان الأمن هنا هو امر لايستدعي ان تسأل لماذا اخترت الجزيرة و ان التفسيرات تبدو هنا كتبريرات خرقاء بعد فوات الأوان. ففي مهنتك ، على سبيل المثال ، تبحث عن التبسيط ، والتناسب ، والجهد ، والاسترخاء ، والتنفس. وذلك تمنحك اياه المناظر الطبيعية في هذه الجزيرة" وقد كرر وصيته اكثر من مرة قائلا " ولذلك اوصي ان تكون جزيرة "فارو" هذه ملتقى للفنانين والأدباء والموسيقيين في المستقبل " وهكذا بعد وفاة المخرج اصبحت الجزيرة وبيته الجميل ومكتبته والشاطيء القريب ملتقى للفنانين السويديين تحت اشراف لين اولمان ابنة النخرج التي رافقته طوال سنواته الأخيرة .

لقد تحققت امنيته تلك بعد وفاة المخرج في منزله بجزيرة فارو في الثلاثين من تموز عام 2007 عن عمر يناهز ال 89 حيث سجل عرفانه لفضل بلاده ومثقفيها وبيئتها الثقافية خلال رحلته الأبداعية .


مشاهدات 830
أضيف 2023/01/13 - 11:15 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 11:07 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 191 الشهر 191 الكلي 9362263
الوقت الآن
الإثنين 2024/7/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير