هاشتاك الناس
جمرة الأسئلة
ياس خضير البياتي
لأننا في عالم الغرائب والطرائف، والمضحكات والمبكيات؛ فقد صرنا نرى ما لم نره منذ أن خُلِق الإنسان عاريًا، يهيم في الطبيعة. فلقد انقلب حال الدنيا؛ فالعربة تجر الحصان، والجاهل الأحمق يتحكم بالمفكر والفيلسوف، والسياسة تصنع إمعات وتُقدِّمهم كزعامات صوتية بائسة.
صورٌ بائسةٌ لزمن افتقد لمعانَ القيم النبيلة، ورجولةَ الوطنية، ونقاءَ الأنفس. صار الجهل هذيانًا مشهورًا يعم الأوطان، ودُور العلم مراتعَ للخُزعبلات وأمكنةً لهدرجة البشر والعلم.
صارت حياتنا كلها هدرجةً بلغة الكيمياء: فالجمال هُدرج بالبوتكس والفيلر؛ لينتج لنا متشابهاتٍ بلا خصوصية وهوية، والحياة أصبحت لا تُطاق بفعل الفاعل المجهول، حيث اختفاء المنطق، وشيوع الخزعبلات الافتراضية. وظهور البشر التي تنادي الجهلَ والبلادةَ والتفاهةَ لتجلس على المقاعد الأمامية؛ لتحكم البشر.
دنيا عجائب بالمتواليات والمترادفات. الكل في خزان اليأس ينتظر فتحة أمل عسى أن يأتي النور ولو خافتًا. والجميع هائم على وجهه في الأرض يردد، كما ردد الحلاج: اقتلوني.... فتؤجروا... وأستريح.
ضاع الأمس الحزين بالحاضر الأحزن بمصائب البشر، وقسوة القلوب، وتكنولوجيا الكوارث، وأفعالها السلوكية الصغيرة التي نحبها ونكرهها. دنيا مليئة بنا، ونحن بها هائمون، وعقولنا مشغولة في نصف الوقت بثرثرة الدماغ، حيث ضياع الأمل والتأمل والأحلام في النفوس.
نعيش أسرى أفخاخ تترصد حياتنا، وطاعون سياسي يريد احتواءنا من خلال: الآلة، والسلطة، ووسائل الإعلام. كأننا محكومون بأن نكون عبيدًا لها، تؤرقنا يوميًّا أشجان جمرة الحياة، وأسئلتها: هل نحن وحدنا في العالم؟
فلسفة الربح والخسارة، ليست رقم ناقص وزائد. خسارة النفس هي الأكبر من خسارة العالم. والإرادة كفيلة بأن تجعل الإنسان يربح الحياة دون أن يخسر نفسه. ومثلما هناك متعة الربح، هناك غصة للخسارة لا نستطيع ترجمتها في الواقع.
من الخطأ العبث بالحاضر بعد عمرٍ طويل، فأرباح الماضي ليست الحل لتجاوز الحاضر، لأن أكبر خسارة هي خسارة النفس والوقت. وصدق الحكماء حينما قالوا: الخسارة، خسارة الروح!
وبمنطق جدلية الحياة، يبقى الوعي أساس الوجود، ومعرفة قانون الربح والخسارة؛ لأن الوعي بمفهوم ديكارت: هو التفكير، والتفكير هو عنوان وجود الإنسان "أنا أفكر إذًا أنا موجود". وهي نفس رؤية سقراط القائل "اعرف نفسك بنفسك، فالحقيقة موجودة بداخلك لا بخارجك"، ذلك بأن" الشعور بالذات لا يتوقف أبدًا" برأي ابن سينا.
وعندما نفهم هذه الجدلية الحياتية، نعرف لماذا يغرق البعض باليأس والأحزان، ولماذا نقاتل بعضنا البعض في زحمة الحياة الزائلة؛ نحفر آبارًا عميقة للإيقاع بالصديق، ونتخاصم من أجل (جلد منفوخ) ونحن راحلون. وإذا كانت الدنيا-بطولها وعرضها-لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ فما بالنا نتخاصم ونتعادى لأجلها. فالدنيا لا تستحق التخاصم والعداوة. وأحلى ما في الدنيا أصعبها!
لو كان الإنسان حرًا بوعيه، ونقيًّا في أفكاره-لعرف سر الحياة بجمالها وتفاهتها، ولعن أهل الجاهلية ونفاقهم. فالعبرة ليست معرفة الآخر، ولكن الإحساس به، كذلك العمر، ليس السن هي ما بلغه الفرد، بل ما يشعر به. هناك قاعدة حياتية: دومًا يأخذ الماء شكل الإناء. ليس من الحكمة والمنطق أن نعيش في الماء ونعتبر التمساح عدونا.
اعرف أن حياة اليوم تسير بالمقلوب، والنفاق يزداد منسوبه، والنميمة تتضخم، واللسان يكبر بالكبائر لتشويه السمعة والترصد للآخرين. هناك توحش البشر، حيث المجتمعات ممتلئة بالناس؛ لكنها خالية من الإنسانية. مصائب وأهوال يبتكرها الإنسان من أجل إشباع غريزة البقاء ونرجسية الأنانية والمصالح.
أصبحت الحياة مقهى للثرثرة، ومكانًا لزماننا، وفضاء لثرثرة المؤشرين والمؤثرين على زمن الملأ والإفراغ، والمكان بأهله، كما يقول الصوفية. وفي مجتمعاتنا ازدادت المقاهي لحاجتها للثرثرة، ونهش لحم البشر والاستخفاف، وليس لضياع الوقت والتسلية.
نقلًا عن صديق عزيز: جربت الذهاب إلى مقهى ثقافي، عسى أن أجد فيه متعة الحوار والعصف الذهني، ومفتتح نصوص، والترويح على النفس، والهروب من الإحساس بتفاهة الفراغ والجدة في الحياة. لكنني اصطدمت بالواقع؛ نميمة مكشوفة تعبث بخصوصيات البشر، وتقزيم لمبدعين كبار، وحدوتات مريضة بالنرجسية والغرور والتعالي.
لم يسلم أحد إلا وقد نال قسطًا من تفاهات النقد والتجريح، حتى ذلك المبدع الذي يعيش بعيدًا عنهم في غربته. شعرت بأنني أهرب من الفراغ إلى الفراغ نفسه، والهروب من الإحساس بالتفاهة أحيانًا، إلى تأكيد الإحساس بتلك التفاهة!
جمرة الأسئلة: هل نشعر بأننا نحيا كبشر؟
فلسفة الدنيا: الأمس لن يعود، والحاضر لن يدوم، والمستقبل لا ندري أين سنكون. تعلم من الألم ولا تكن رفيقا له. فالحياة بلا فائدة موت مسبق. ومن الحياة نتعلم .