الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نازحون حتى الأبد

بواسطة azzaman

نازحون حتى الأبد

عمار يحيى

 

أنا النازحُ الأبدي، قبلَ ولادتي وبعدها مراتٍ ومرات، أنا النازحُ الذي كلّما تَناسيتُ بأنّني نازح، صَفعَتني حكومةٌ جديدةٌ بملفِّ معاملةٍ جديدةٍ لتذكّرني بأنّني نازح، أنا النازحُ الذي ما فتئَ يقفُ في الطوابيرِ الطويلةِ عند دوائرِ الحكوماتِ المتعاقبةِ لأثبتَ بأنّني نازحٌ من مدينةٍ إلى مدينةٍ في نفسِ البلد. فإذا ما فرضَ عليك الزمنُ أنْ تكون نازحاً، ستكونُ مُجبراً بأنْ تلتزمَ بالقوانينِ الوضعية التي وُضِعتْ خصيصاً لك، القوانين التي تشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ قوانينَ الرقِّ في العصورِ المُظلمة. عندما يفرضُ عليك الزمنُ أنْ تكونَ نازحاً، فعليك أنْ تلتزمَ بما قرّرهُ السياسيّون وأشباههم بالنيابةِ عنك، أنْ تُعاني طويلاً، حتى إذا اعتقدتَ بأنَّ هذه المعاناةَ بدأت تقتربُ من نهايتها، فعليك أنْ تلتزمَ بالتجديد والابتكار الحكوميِّ لمعاناةٍ جديدة، فأنتَ يا رفيقي في دربِ النزوح، لستَ سوى نازح!

عليك أيضاً أنْ تلتزمَ بالوقوفِ في الطوابيرِ الطويلةِ لتجديدِ معاملاتكِ وإثباتِ أنك نازحٌ بائسٌ بينَ حينٍ وآخر، فالأمرُ لمْ يعدْ بيدك لتعودَ مواطناً طبيعياً، فإمّا أنْ تكونَ نازحاً أو أنْ تكون "لا أحدْ". وهكذا أيُّها النازحُ البائس، عليك أنْ تفرحَ بقراراتهم أيضاً وليسَ الالتزامَ فقط، أنْ تفرحَ حين يُقرّرُ وزيرٌ ما أنَّ أُولى أولوياتهِ هي إغلاقُ مُمثّلياتِ التربيةِ ومنعِ التعليمِ عن أطفالكَ إذا لمْ تَعُدْ إلى مدينتكَ التي لمْ يَعدْ لك فيها منزلٌ أو عَمل، وهدمِ كلّ ما بنيتهُ خلالَ سنواتٍ طويلةٍ عانيتَ خلالَها ما عانيت. وإذا ما ظَنَنْتَ بأنّكَ سترفُضُ، تَتَحدّى، تَنْتَفِضُ، تَجِدُ حلولاً بديلة، فإنّ وزيراً آخرَ يقفُ لكَ بالمِرصاد، مُقرّراً حجْبَ البطاقةِ التموينيّة عنكَ حتى تعودَ إلى رُشدك، وتتذكّرَ جيداً بأنّك لستَ سوى نازح! فأنتَ بلا بطاقةٍ تموينية، لا تعترفُ بأوراقك أيّ دائرةٍ حكوميّة. وعندما تتذكّرُ، وتَتَعقّل، وتَعودُ خائِباً بكلِّ كبرياءكَ المُحطّم لتلتزمَ بمُقرّراتِ الحُكومة، فهناك طوابيرٌ طويلةٌ تنتظركَ ليتمَّ مُعاقبتكَ من خِلالها، وتُوفِّرَ لك الوقتَ الكافي لتَتفكّرَ جيّداً بنتائجِ محاولاتكِ البائسةِ للخروجِ من عباءةِ النزوح. وأنا مثلكَ يا عزيزي، أتشاركُ معكَ معاناتكَ كلُّها، رُغمَ أنّي نزحتُ منذُ ما يقربُ 17 عاماً، ونسيتُ أنا الخائن، بأنّني نازحٌ بائس، نسيتُ بأنّني عليّ الالتزام بقراراتِ كلِّ حكومةٍ جديدةٍ وكلِّ وزيرٍ جديدٍ قد لا تتجاوزُ مدّةُ وزارتهِ عاماً أو اثنين، نسيتُ بأنّني عليّ أنْ أرضخَ لأهوائِهمْ وخططهمْ التي توضعُ عبثاً للضّغطِ علينا وإعادةِ معاناتنا "كي لا ننسى" أبداً بأنّنا لسنا سوى نازحينَ بؤساء. وها أنا اليوم أقفُ في طابورٍ طويل، مُنتظراً دوري لإجراءِ مُعاملةِ العودةِ ونقلِ بطاقتي التموينيّةِ التي لمْ أتدخَّلْ بنقلها  قَبْلاً، طابورٌ طويلٌ لنْ ينْتهي اليومَ بالتأكيدِ كما كان يُردّدُ العجوزُ النازحُ الذي يقفُ أمامي:

-           خلْ نرجع نتغدا ونجي نبات هنا من المغرب حتى يوصلنا السرا باجر، العريضجي ديمشي معاملة وحدة كل ربع ساعة وماكو غير عريضجي واحد!

 وهكذا، أُعلنُ بأنّني أنا النازحُ من الدرجةِ الأولى، أرفضُ قراراتِ الوزاراتِ والوزراءِ لإجبارنا على العودةِ قَسْراً بفرضِهم علينا الوقوفَ في هذه الطوابيرِ الطويلة، وقبلَ حلِّ مسألةِ التعذيبِ النفسيِّ بوضعِ موظّفٍ واحدٍ يقعُ على عاتقهِ إنهاءُ مئاتِ الآلافِ من مُعاملاتِ البطاقاتِ التموينيةِ في أيّامٍ مَعدودة. وأنّني ما عدا ذلك، أرضخُ لكلِّ القراراتِ الحكوميّة، حتى لو فرَضوا علينا العودةَ مَشْياً، أو هَرْولةً، أو رَكضاً، حتى لو فرضوا علينا نقلَ رواتِبِهم على ظهورنا من مدينةٍ إلى أُخرى في عراقِنا العظيم، حتى لو جعلونا نُنَظّفُ منازلِهَم ونَحْرُسُها بدونِ مقابلٍ لحينِ عودَتهم من بطولةِ كأسِ العالم، ففي النهايةِ لقد تعلّمنا الدرس: لسنا سوى نازحين بؤساء!

 

 


مشاهدات 668
أضيف 2022/12/24 - 2:16 AM
آخر تحديث 2024/06/30 - 1:53 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 305 الشهر 305 الكلي 9362377
الوقت الآن
الإثنين 2024/7/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير