رحيل الدكتور عبد العزيز المقالح.. لا بدَّ من (صَنعا) وإن طال السَّفر
غزاي درع الطائي
إذا أردت أن تعرف اليمن ومعنى الحب اليماني، وأن تحس بألم اليمن وجراحها، ومسرّاتها وأحزانها، وروحها وعاطفتها، فما عليك إلا أن تقرأ شِعر عبد الله البردّوني الذي وُلد في قرية البردون عام 1929 وتوفي في 30آب 199? وشِعر الدكتور عبد العزيز المقالح الذي وُلد في قرية المقالح عام 1937 وتوفي في 28 من الشهر الجاري، فهما يمثلان الوجه الشعري لليمن، والضمير اليماني الفصيح، ومناسبة هذا الكلام هو رحيل الدكتور عبد العزيز المقالح، هذا الناقد والمفكر والرمز التنويري اليمني الكبير وأستاذ الأدب والنقد الحديث، الذي قال :((لا بدَّ من (صَنعا) وإنْ طالَ السَّفرْ))، والذي قال: ((إن عالماً خالياً من الشعر هو عالم بائس شديد الجفاف))، إنه فقيد اليمن والعالم العربي، وهو رائد القصيدة المعاصرة في اليمن، وأيقونة الثقافة اليمانية، ورئيس المجمع العلمي اللغوي فيها، ورئيس جامعة صنعاء من 1982 إلى 2001? ويعدُّ من أهم شعراء العربية وأعلامها، وقد اختاره النادي الثقافي بسلطنة عمان الشخصية العربية الثقافية لعام 2021.
في شعر الدكتور القالح تعرف أحوال صنعاء وتشمُّ البن اليماني وترى عرش بلقيس وتعبر فوق سد مأرب، في شعره أحلام عمال الجَوْف وصيّادو سوقطرة، والشعر عنده هو الروح والهوية، وقد أثرى المكتبة الشعرية والنقدية العربية بإبداعه الراقي، فقدم للمكتبة اليمانية والعربية (15) مجموعة شعرية، و(20) كتابا نقديا.
كان يردِّد: ((ماتَ الطُّغـاةُ الظالمـونَ، وشعبُنا المظلـومُ عاشْ))، وكان يلمح طيف حبيبته في الغيوم الشريدة، وكانت لغته تتكسَّرعلى صخرة الوعود البليدة، وشعر الدكتور القالح فيه حديث الوجع اليماني: ((أبكي فتضحكُ من بكائي/ دورُ العبادةِ والملاهي/ وأمدُّ كفّي للسماء تقولُ: رفقاً يا إلهي/ الخلقُ - كل الخلق - من بشرٍ ومن طيـرٍ ومن شجرٍ/ تكاثر حزنْهم واليأسُ يأخذهم - صباحَ مساءَ - من آهٍ لآهِ))، وكان يزف بشارته للجائعين: ((أيها الجائعون/ ابشروا/ لن تجوعوا/ فقد أذّن المتوضّون للحرب/ وانهمرت في الشوارع والطرقات/ شظايا الأناشيد/ هيا ابشروا/ لن تجوعوا/ كلوا من لحوم المدافع/ من شحم دبابةٍ/ لا تخافوا من الموت/ فالموت أغنيةٌ عذبةٌ/ والشهادة واجبةٌ/ وهناك وراء القبور المغطاةِ/ بالزهر مائدةٌ/ لن تجوعوا/ ولن تظمؤوا بعدها أبدا))، وكان يحذِّر من الحرب، فهي ليست حلا، بل هي باب إلى الموت والمحرقة وليست بابا إلى الصبح ولا بابا إلى الله : ((ليستِ الحرب باباً لصبحٍ جديدٍ/ كما يزعمون/ ولكنها ظلمةً/ أعيدوا السيوف لأغمادِها/ إنها الحرب بابٌ إلى الموت/ بابٌ لقتل المشاعر/ بابٌ إلى المحرقةْ/ ليستِ الحربُ حلاً/ إذن ليست الحرب باباً إلى الله))، وكان يؤمن بالحكمة الصينية التي تقول: ((الشعر يقوِّم الخطأ ويحرِّك السَّماء والأرض والأرواح والآلهة))، وكان يضع نصب عينية قول الشاعر الإنكليزي ديلان توماس ((لا يبقى العالم كما كان بعد أن تضاف إليه قصيدة جيدة))، وكان يمجِّد الشهداء، فيقول: ((كل شيء فراغٌ هنا/ وفراغٌ هناك/ ولم يبق في ليل هذا الفراغ/ سوى صور الشهداءوهم يكتبون بماء النجومِ/ قصائد ثورتهم/ وملاحم أحلامها الناصعة))، وكان يلبّي نداء (صنعاء):
لَبَّيْكِ يــــــــــا (صنعاءُ) نحنُ هنا
لا الموتُ يدركُنـــــــــا ولا الزمنُ
فُرْسانُ عصرِ الشمسِ ما بَرِحَتْ
ايـــــــــــــــاتُهـم تدنـو وتقترنُ
حصل الدكتور عبد العزيز المقالح على جوائز وأوسمة وتكريمات مهمة عديدة، وآخر تكريم ناله جاء من مكتبة قطر الوطنية التي أقامت في الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني الجاري فعالية احتفاء لمناسبة مرور (51) عاما على صدور باكورة مجموعاته الشعرية (لا بد من صنعاء)، التي منها قصيدته الشهيرة (لابدَّ من صنعا وإن طال السفرْ)، ومنها:
يومــــــــاً تغنّى فى منافينا القدَرْ
لا بدَّ مِنْ (صَنعا) وإنْ طالَ السَّفرْ
(صَنعا) وإنْ أغفتْ على أحزانِـها
حيناً وطــــــــالَ بها التبلُّدُ والخَدَرْ
سيثورُ فى وجـهِ الظَّلامِ صباحُها
حيناً ويغسلُ جدبَها يومــــــاً مَطَرْ
والشعر عنده صنفان: شعر تصنعه الحياة، وشعر يصنع الحياة، شعر ينشده الإنسان وحيداً، وشعر ينشده الإنسان والدهر معاً، الشعركما يفهمه هو ((صورة ولغة وموسيقى، وهو مفردة تدخل الوجدان لتصنع وجودها المستفيض. وهذه الفاعلية اللغوية هي صانعة الشغف وأداة التحكم الجمالي الفني في تكوين التأثير الإمتاعي))، إنه ((غذاء روحي يطرق الوجدان بسهولة ويسر))، وإنه غناء الطيور العذب ورائحة الزهور الجميلة وفصول الزمان، و((جميل أن لا يكون الشعر حرفة، وأن لا يكون مصدر رزق، وأن يبقى كما أراده الله للطيور غناءً، وللزهور رائحة وألواناً)).