الذكرى 12 لضحايا كنيسة سيدة النجاة
بيوس قاشا
أنْ أتذكَّرَ اليومَ الهجومَ الإرهابي على كنيسة سيدة النجاة عصر يوم الأحد 31 تشرين الأول 2010 لَهُوَ مِنْ أصعبِ الأمور على قلبي وذاكرتي ووجداني، وحاولتُ مِراراً وتكراراً إرسال تلك اللحظات العصيبة إلى دائرة النسيان دون جدوى.
ليلَها رأيتُ أناساً يتحوّلون إلى ذئابٍ مفترسة، وكانوا يقتلونَ ويصلّونَ ويكبّرونَ ويفجّرونَ باسمِ الدين، ظنّاً منهم بأنَّ إلَهَهم سيكونُ سعيداً بما يفعلونَ باسمِهِ، وحوَّلوا الذبيحةَ إلى مذبحةٍ بشرية.
ما أبشعُها. جريمةٌ مروِّعة مُخجِلة، بل هي وصمةُ عار. لم يخجل السفّاحونَ كما لم يُدركوا أنهم شوَّهوا صورَتَهم هم والذين خطَّطوا لها، فأصبحوا وحوشاً كاسرة، غرزوا أنيابَهُم في أجسادٍ بريئة عِبْرَ اسلحتِهِم الفتّاكة. فقد سَجَّلَ التاريخُ هذه الكارثة عِبْرَ صفحاتِهِ السوداء، والحطبُ فيها أناسٌ أبرياء.
إنَّ كارثةَ كنيسة سيدة النجاة تعلِّمُنا أنَّ المسيحية تحملُ رسالةَ حبٍّ قيمتُهُ فداءٌ وغفران.
اليوم معكم أنحني إجلالاً لأرواحِ ضحايا العراق ومنهم ضحايا كنيسة سيدة النجاة. لقد كانت مأساةٌ حقيقية قَصَمَتْ ظهرَ وجودِنا، وغيَّرَتْ بطاقةَ أحوالِنا في هذا العراق الجريح. فقد أفزعَتْنا، وملأتْ بالخوفِ قلوبَنا، ونحن لا زلنا نعيشُ ذيولَها من مآسي وضيقاتِ وضَياع وحتى الساعة. ومن المؤسف أنْ تقعَ هذه الجريمةُ النكراء في بيتِ الصلاة، وفي زمنٍ نحن بحاجةٍ إلى نشرِ ثقافةِ المحبةِ والتسامحِ والتعايش.
"فالعالَمُ سَئِمَ من الوعودِ الكاذبة والأجوبة الجزئية، فوضعوا اللهَ جانباً بل هَمَّشوهُ زوراً وبُهتاناً باسمِ الحريةِ الشخصية والإستقلاليةِ البشرية"... هكذا يقول البابا بندكتس السادس عشر الذي وصفني بالشاهد لحقيقةِ الحياة، بعدما قدَّمتُ له كتاباً عن ضحايا وشهداء كنيسة سيدة النجاة في 11 كانون الثاني 2012 إذْ كنتُ الشاهدَ الأمين لهذه الكارثة.
نعم، دماءٌ أُهْرِقَتْ، وأرواحٌ زُهِقَتْ، وفيها سقط العديدُ من أثَرِ الرصاصِ الغادرِ من ذئابٍ بشرية مجرمة هزّتِ الضمائرَ وأرجَعَتْنا إلى زمنِ التخلُّفِ وشريعةِ الغاب، وجَعَلَتْنا نئنُّ من ثقلِ الصليب الذي كُتِبَ باسمِنا. فحملناهُ كَنيرٍ ثقيل، ولا زلنا نتساءلُ: إلى أين نحن ماضون؟ وفي أيِّ إتجاهٍ نحن سائرون؟ وهل ستبقى المسيحيةُ تشهدُ لرسالةِ المسيح الحيّ؟ وهل سيبقى إيمانُنا شاهداً لحقيقةِ المحبةِ التي حملناها عبر مسيرةِ حياتِنا؟ وهل سنبقى أمناءَ للنعمةِ التي مُنِحْناها من جرنِ عماذنا؟ فنحن اليومَ أصبحنا في سؤالٍ من ذواتِنا، من وجودِنا، من كينونتِنا، من حياتِنا، ولا سؤال غير: لماذا؟ وحتى متى كلُّ هذا؟ لماذا نحن حزانى، مضطَهَدون، مهاجَرونَ ومهجَّرونَ في داخلِ وطنِنا وخارجِهِ؟ ولا نعلم أنْ نرسمَ مستقبَلَنا ومستقبلَ أجيالِنا.
فحتى عيونُنا أصبحت عمياء ولم تعدْ تفرِّقُ بينَ الحقيقةِ والدجل، بين الغشِّ والصراحة، بين التعايشِ والانتقام، وأصبحنا نخافُ حتّى مِن ظلِّنا ومن الذي يكلِّمنا، ولم يعدْ باستطاعتِنا بعدُ أنْ نقرأَ علاماتِ الأزمنة، ولا أنْ نحدِّقَ مليّاً وجليّاً وبكلِّ هدوءٍ نحو غيرِنا. وما يخيفنا هو عدوُّنا كلَّ يومِ بل كلَّ نهارٍ وليلٍ، وبدأ دورُنا ينحسرُ في خسارةِ شبابِنا ورجالِنا وأزلامِنا، ولا نفكّرُ أنَّ النهارَ قد أشرقتْ شمسُهُ، وأنَّ الليلَ قدْ بسطَ سوادَهُ، كونَ الضياعُ والاضطرابُ والقلقُ والخوفُ قد ملئوا أفكارَنا وعقولَنا، فأَضَعْنا مصيرَنا بِتَيْهِنا عبرَ المحيطات، والوقوف أمام السفاراتِ والأُمَم المتْعِبة. والأنكى من ذلك أننا بدأنا نشعرُ أنَّ أرضَنا لا تسعْ لنا ولِسُكْنانا، فنحن لا زلنا نسيرُ نحو القِمَمِ الوعرة في حياةٍ متلاطمةِ الأكوامِ والأطراف.
وهمومُنا أمامَ عيونِنا، وبلايانا في سجلاتِ مسيرتِنا كتبناها، وكلَّ يومِ نتساءلُ: ما هذا العذاب؟ بيوتُنا بيعتْ، جيرانُنا رحلوا، أولادُنا قُتِلوا وهم على مصطبةِ الصلاة وهم يُنشدونَ رحمةً من الرحمنِ الرحيم، فهل هناك أكثرُ من ذلك؟.
كارثة الكنيسة
أمامَ كلّ علاماتِ الاستفهامِ والحيرةِ والضياعِ هذه، فالمسيحُ الربّ يدعونا أنْ ننظرَ إليه وهو على الصليبِ فاتحاً ذراعَيْهِ يحضنُ الأخيارَ والأشرار، الصالحينَ والطالحين، وهو يقول لنا "قوموا، احملوا سريرَكم وامضوا" (متى6:9) والعلامةُ كانت في اليومِ الثالث منتصراً على الشرِّ والحقدِ والكراهية، على المصلحةِ والأنانية والمحسوبية، على المحاصصةِ والطائفية والفساد. منتصراً على الذين بيدِهِم زِمامَ الأمورِ في السلطةِ ومنهم هيرودس الحاقد. منتصراً على الذين يجولونَ في الهيكلِ ويُصدرونَ أوامِرَهم ويدنّسونَه، ويجعلونَ أنفسَهم أبرياءَ أمامَ أنظارنا، ومع هذا قال الربُّ "احملوا الشفاءَ للمرضى وقولوا لهم لقد اقترب ملكوتُ السماوات".
نعم، في كارثةِ كنيسةِ سيدة النجاة دفعنا ثمناً باهضاً، وربما لا زال الآتي أقسى وأعتى. فالدعوة الحقيقية لا تكمن في الهروبِ والهجرةِ وبيعِ الممتلكاتِ والتفتيشِ عن نعيمِ الدنيا، بل تكمنُ في الحفاظِ على عيشِ الإيمان وحبِّ الأوطان. فربُّنا يسوع جعل نفسَهُ سمعانَ القيرواني من أجلِنا، فهو يحملُ عنّا أوجاعَنا وأمراضَنا وهمومَنا ليقوّنا، ويجعلنا أنْ نَخْلُصَ لحقيقةِ تربيتِنا ونيلِ حقوقِنا. فالحقوقُ هنا لا تُصانُ في سجلاتِ الأُمَمِ ومجالِسِها المتعددة، ولا في بياناتِ الاستنكاراتِ والتنديدِ والمسيرات من كبارِ زمنِنا، فهذه قد ولّى زمانُها، ولنْ تعيدَ إلى ضحايانا حياتَهم بل إنَّ حقوقَنا قد نِلناها أولاً بوعدِ ربِّنا يسوع الذي قال "تعالَوا يا مباركي أبي، رِثوا المُلْكَ المُعَدذَ لكم منذ إنشاءِ العالم" (متى5:25) وقال أيضاً "لا تخافوا، آمنوا بي" (مر40:4).
أيها المسيحيون الكرام...
نعم، لا نخافُ مهما طال ليلُ العذاب ومهما ثَقُلَ الصليب، فالسيدُ الغائبُ آتٍ ولنْ تُضعِفُنا عندها القوةُ والمالُ والجاهُ والسلطةُ والدنيا، فالأقوى هو مَن يحيا ليومِهِ منتظراً سيِّدَهُ (متى48:24).
لذا علينا أنْ نطردَ الإحباطَ المعشْعِشَ في صدورِنا، والهزيمةَ الساكنةَ في أفكارِنا، والهروبَ المتربِّعَ على أعناقِنا، ولنحملَ سلاتِ المسامحة والغفران والحوار تجاه أعدائِنا، ومَن وَسَموا جرائِمَهُم بطابِعِ أعمالِهِم المشينة، ولنحملَ الرجاءَ، وهذه حقيقةٌ إيمانية وليست نداءاتٌ بشرية دنيوية من أجلِ الانتقام والحقد.فما حصلَ في كنيسة سيدة النجاة دعوةٌ لنا كي نتقدمَ إلى العمق ونركنَ إلى العقلِ والتحلّي بالإيمان والصبر، ونكثِّفَ صلاتَنا حاملين رايةَ الرجاءِ إزاءَ رايةِ الغفران بالمسيح الحيّ الرب.
ففي ذلك نتعلّم أنَّ المسيحيةَ لا تُدْرِكُ إطلاقاً لغةَ الانتقامِ والموتِ والحقد، بل هي انبعاثٌ. ولا للمسيحي أنْ يكونَ تنّيناً يحرّض الآخرَ، ولا ينفثٌ سُمَّهُ بعمقِ الكراهية في مسيرتِهِ إزاء الآخرين. ولنُظهِرَ الظُلمَ وذيولَه ونعلنَ الحقَّ وراياتِهِ كي لا تصبح مسيحيَّتُنا مجرَّدَ هويةٍ نحملها، وكي لا تكون طلباتُنا من أجلِنا ولأجلِ أحبَّتِنا، بل لنشارك أعداءَنا ومضطهدينا كي لا نمجِّدَ أنفسَنا ونسبِّحَ أعمالَنا، بل الحقيقةُ تدعونا إلى تمجيدِ اسمِ الله وتسبيحِهِ.
شعب شهيد
لتكن دماءُ شهداءِ عراقِنا الجريح علامةَ خَصْبٍ، علامةَ عرسٍ وهناء. فشرقُنا زاخرٌ بدماءِ الشهداء. فنحن شعبٌ شهيد ليس إلا. ولنُنشِدُ ترانيمَ الحقيقةِ. فالبابا يوحنا بولس الثاني يقول: إنَّ اللهَ جعلَنا على مرِّ الأجيالِ في هذه البقعةِ من الشرق لنؤدّي للمسيحِ شهادةً حَسَنة، شهادةً ليس لها بديل. فإذا ما انهزمنا نكون قد أهملنا دعوتَنا، وانحرفنا عن رسالتِنا، وزوَّرْنا الشهادةَ في كثيرٍ من تصرفاتِنا مع غيرِنا لأجلِ مصالحِنا. فكلُّ مَنْ أراد أنْ يحيا في المسيح حياةَ التقوى، أصابه الاضطهاد (تيم13:3) و"إذا مُتنا معه حيينا معه" (تيم12:2).
أخيراً، فليرحم الربُّ شهداءَنا وضحايانا برحمتِهِ الواسعة، وليُحِلَّ أمنَهُ وسلامَه في قلوبِ المؤمنين، ولتسكن المحبةُ في زوايا وطنِنا الحبيب، ولينبذَ كبارُ زمنِنا - ونحن منهم - من عقولِهِم أنواعَ العنفِ والشرِّ والحقدِ والكراهية والمصلحة والمحسوبية من أجلِ العيشِ بسلام، وأنْ نكون أمناءَ وأوفياء لوطنِنا وتربتِنا، لدعوتِنا ولمسيحيَّتِنا، ولا أجمل.
رَحِمَ اللهُ ضحايا وطننا الجريح، والذين انتقلوا إلى مدينةِ الأحياء. نعم وآمين.