الكنيسة وحكمُ الديموغرافيا المتغيّرة
لويس اقليمس
خبراء البيئة والديمغرافيا في الغرب يحذرون من عواقب التزايد المفرط المطّرد في عدد سكان العالم بلا حساب ولا حدود، لما قد تشكله مثل هذه الزيادة من تفاقم مشكلات كثيرة على مصير الأرض والمجتمعات. ومن هنا دعوة البعض لوضع حدود للتكاثر السكاني على الكرة الأرضية. فحين تتجاوز الزيادة آفاق الانتاج وما تدرّه الأرض من خيرات، فتلك مشكلة تُدخل العالم ومَن يسوسُه في إنذار وأزمة بشأن ما يمكن القيام به من إجراءات وتدابير لسدّ سلّة الغذاء التي يضربُها الاختلال في تلبية الاحتياجات والطلبات. ولو حصل مثل هذا الاختلال في الناتج والطلب من دون تحقيق شيء من التوزان في الحالتين، فهذا بكلّ تأكيد ستكون له آثارٌ وخيمة على إدارة البلدان وتلبية حاجات مواطنيها، ومن ثمّ حصول اختلال في التوازنات الدولية بين الطلب المتزايد والعرض القاصر.
انفجار سكاني
هناك مَن يرى في برامج الانفجار السكاني في بعض الدول النامية عائقًا حقيقيًا أمام برامج التنمية التي تخرج عن نطاق قدراتها في توفير الحاجة لإدامة الحياة ومنها بطبيعة الحال حصول قصورٍ في توفير البنى التحتية التي تتعاظمُ شكلاً وكمّا ونوعًا. يواجه مثل هذه المحاذير أقوالٌ طوباوية واعتباطية بقدرة السماء على إعالة خليقة الله وتأمين عيشها من فضلات الأرض واستغلالها بأفضل السبل والوسائل العلمية والتقنية المتاحة والتي تتطور مع تقدّم العلوم والتكنلوجيا. وهذا في نظر هؤلاء المنظرين، كفيلٌ بتأمين ما تحتاجه البشرية من سلّة غذائية ووسائل أساسية تقيها عيشها وتضمن قوت حياتها. وليس من شكّ في تبنّي مثل هذه الأفكار البسيطة والساذجة في جزئيات منها من قبل جهات تحملُ مفاهيم دينية واعتبارات كهنوتية في أغلبها، وذلك اعتمادًا على قدرة الخالق برعاية خليقته تمامًا كما "يقوت ربُّ السماوات طيورَ السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى الأهراء"، كما يرد في انجيل متى (متى6:26).. ردّا على آراء الفريقين المتقاطعين في وجهات النظر، لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار أيضًا، ما تتعرّض له شعوب العالم من ويلات وحروب وكوارث طبيعية وأخرى ليست في الحسبان يُضمرها الزمن الصعب ويلفها الغموض والتي من شأنها المساهمة في الحدّ من التزايد السكاني الانفجاري بسبب ما تسببُه هذه النكبات بمجملها من تناقص في أعداد البشر حينما تكتسح آثارُها شعوبَ الأرض لأيّ من الأسباب، طبيعية كانت أم بفعل البشر. فالتاريخ كفيل بنقل صور مرعبة لتناقص سكان العالم حين مهاجمة الأوبئة الفتاكة للبشر مثلاً، كما حصل في سابق السنين وعبر توالي القرون من مآسٍ بسبب أوبئة متوطنة ضربت دولاُ عديدة، مثل الطاعون والكوليرا والجدري والملاريا والحصبة والإيدز وأشكال الحمّى والأنفلونزا والالتهابات البشرية والحيوانية وأمراض غريبة أحدثت أعدادًا كبيرة من الخسائر البشرية. ولم يخلُ العالم من مثل هذه الأوبئة حتى في عصرنا الحالي، حيث يجتاح وباء فايروس كورونا هذه الأيام معظم بلدان العالم ليوقع ضحايا بشرية، وإنْ ليست بذات الأهمية التي أوقعت أوبئة سابقة آلاف البشر بل الملايين منهم. ومثلُها ما حصل في حروب دامية بين الأمم والدول، وآخرها مآسي الحربين الكونيتين في القرن المنصرم والحروب الحالية في مناطق عديدة من العالم.
بالمجمل، ينبغي أن يدرك قادة العالم وساستُه ما يستدعي اتخاذهُ من إجراءات تحوطية وإدارية فاعلة للحفاظ على البيئة والنظم الإيكولوجية التي من دونها، يحصل خرقٌ في التوازن العام في الحياة. ولعلَّ من الدلائل القائمة ما يشيرُ حقًا إلى مستقبل غامض وغائمٍ لكوكب الأرض، ما يشكلُ خطرًا كبيرًا على جميع شعوب الأرض من دون استثناء من حيث فقدان القدرة على الإنتاج وحصول أزمات اقتصادية حادة من شأنها التأثير على طبيعة حياة البشر ووسائل كسب قوتهم اليومي بيسر ودون معاناة.
أشير في هذه السطور إلى مقالة جديرة بالاهتمام نشرها واحد من ألمع علماء الاجتماع واللاهوتيين الاقتصاديين "دومنيك غرينر" على إحدى صفحات جريدة لاكروا الفرنسية بتاريخ 15 تشرين ثاني 2017 أشار فيها إلى تحذير صادر من أكثر من 15000 عالم من 184 بلد التقوا في مؤتمر بتاريخ 13 تشرين ثاني من العام 2017 لمناقشة التطورات المناخية والنظم البيئية وآثار الزيادات العشوائية لسكان الأرض. وقد أوصى هؤلاء الباحثون بشكل خاص في إعلانهم النهائي بضرورة الحد من النمو السكاني غير الطبيعي في البلدان النامية، واستنفار أجهزة الدول والمنظمات عبر تعميمات وأدوات توعوية وتثقيفية تتطرّق مباشرة لبرامج معدَّة حول تنظيم الأسرة وتعليم المرأة، لما للموضوع من حساسية مجتمعية وحميمية في جزئيات عديدة منه.
الكنيسة الكاثوليكية: الغاية لا تبرّر الوسيلة
عبّرت الكنيسة الكاثوليكية في مناسبات عديدة عن حرصها بضرورة تنظيم حياة البشرية على أكمل وجه من دون أن تشكّل الأزمات الدولية المتنوعة مخاطر على الجنس البشري وقدرة البشر على إدامة زخم الحياة مهما كانت التحديات. ولكون الموضوع فيه الكثير من أوجه الحساسية ولعلاقته المباشرة او غير المباشرة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية في حياة الناس على حدٍّ سواء، فقد راعت الكنيسة الكاثوليكية طيلة مسيرتها جميع هذه المسائل كما راجعت الظروف المرافقة وكذلك فعلَ التوتر الممكن حصولُه بخصوص مسألة إحداث تغيير في الخصائص الديمغرافية للبشرية. كما أبدت مراعاة متوازنة في مسألة تعزيز قدرات الأفراد واستقلاليتهم في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب من دون أن يشكل مثل هذا التحدّي توترًا في الأداء والنتيجة، مع إدراكها الكلّي بكون الزيادة المتفاقمة في عدد سكان العالم ليست هي الوحيدة من الأسباب التي تؤدي للاختلال في شكل التوازن وأدواته. ويمكن للمتابع أن يطّلع على المفاهيم والأفكار المطروحة من جانب اللاهوتيين فيها منذ الخمسينات من القرن المنصرم، سواءً في تعاليمها أو في منشورات رجالاتها المؤتمنين.
في متابعة استقرائية لآراء بعض رجالات الكنيسة الغربية في أعقاب ملتقى 2017 يمكننا الوقوف على رأي وسطيّ مقبول في أوساط الكنيسة الكاثوليكية، تارة بمراعاة وجهة نظر منظّرين يخشون من اختلال التوازن الديمغرافي في عالمٍ متلاطم بالمشاكل والأزمات، وبين فئة أخرى ترى في إدارة سياسات البلدان وفي النظام العالمي ذاته ثغرات وأخطاء يمكن تفاديها فيما لو تأرجحت الحكمة الحسنة والنية الطيبة والإرادة الصالحة لدى بني البشر. حينئذٍ يمكن للكوكب الأرضي أن يسير في طريق الأمان وبالتفاعل والتآزر والتعاون بدل إدارة البشر مثل القطيع الذي يوجهه الرعاة والزعماء بحسب المزاج والأهواء والرغبات عبر أنظمة طاغية لا تمتّ للإنسانية ولا لخليقة الله بصلة. وهذا بطبيعة الحال، من دون أن يغفل العالم وقادتُه الاستخدامَ الأفضل للقدرات البشرية في تعزيز التعاون وتطويع الطاقات لخدمة البشرية بالطريقة التي تقبلُها السماء عبر تحقيق العدل والمساواة والشراكة في تقاسم الخيرات الأرضية والموارد البشرية بما يمليه الضمير الإنساني الحيّ. وهنا، تسقط جميعُ التوقعات والنظريات التي لا تخفي خشيتَها من تفاقم نسبة السكان في الأرض وتأثير ذلك على مسار حياة الشعوب والدول. فالمشكلة لم تعد مجرد مشكلة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية بحتة. بل تتعدى بكونها أخذت آفاقًا جديدة في عالم اليوم من حيث تحوّلها إلى مشكلة أخلاقية بتأثير الجانب الديني المعتدل المجبول بأعمال التعاون وأدوات التفاهم ومفهوم التشاركية التضامنية بين شعوب الأرض.. من هنا يمكن أن يدخل الوازع الديني بكلّ قوته وتأثيره ليجعل واقع الحياة البشرية أكثر حساسية من حيث الحاجة الجامعة إلى تعاون مثمر وصحيح بين الأمم والدول وشعوب الأرض على قاعدة تقاسم الموارد. ولعلّ مِن بين مَن تطرق إلى هذا الشأن من جانب الكنيسة الكاثوليكية هو رئيس أساقفة مدينة ليون الفرنسية (1937-1965) الكاردينال "جيرليير- Gerlier"? رجل المرحلة في حينها والذي أيّد بكلّ جرأة وصراحة ضرورة العمل بمبدأ التشاركية في الثروات الأرضية بقوله: "من هذا المنظور نفهم أنَّ الثروة صُنعت للإنسان وليس الإنسان من أجل الثروة، ويتوجب على البعض معرفة كيفية التجرد قليلاً والتضحية بالفائض لديهم من أجل توفير الحدّ الأدنى الضروري منها للغير المحتاج. هذا هو درس الإنجيل".
في ضوء الرؤية الواضحة لمثل هذه المفاهيم الإنسانية، لا يمكن لأيّ دين أو عقيدة سويّة القبول بزيادة ثراء الأثرياء أضعافًا مضاعفة مقابل زيادة نسبة الفقر والفقراء إلى مستويات قاتلة لا تصلح للإنسانية في عالم اليوم المتحضّر. كما لا يمكن القبول باستغلال الدول الغنية لنظيراتها من الدول المتخلّفة التي ترزح تحت نير عبودية الأولى التي تحلبُها بشتى الوسائل والطرق من دون أن تضع لها خارطة طريق للصحوة من تخلّفها والشفاء من أوجاعها والتخلّص من فقرها بالسيادة على مواردها واستغلال خيرات أرضها بنفسها وبجهود مواطنيها. وهذا يفسّرُ أيضًا موقفًا صائبًا آخر ينبغي أن تقوم عليه الاستراتيجية الدولية إذا ما صلحت نوايا الكبار الذين يُحكمون سطوتَهم على اقتصاديات العالم وسياسات الدول من خلف الجدران. فحين يكون السلام والتعاون والتفاهم بين الشعوب والأمم، تسقط كلّ التحديات الاستكبارية للزعماء الطرشان الذين يرفضون صوت الحق الصارخ القادم من الشعوب المغلوبة المستغَلَّة (بفتح الغاء) من قبل الدول المستغِلّة (بكسر الغاء) من دون وجه حق والذي بسببه تقوم الحروب ويهدّد شبحُها دولاً أخرى تنتظر مصيرها من حروب لها بداية وتُجهل نهايتُها.
قصارى القول، ما يهدّد البشرية هذه الأيام، ليس بفعل الزيادة السكانية الانفجارية فحسب، بل فيما يبدو للجميع فضيحة مبدأ استغلال الشعوب ومن ثمّ الفجوة القائمة في واقع حال عدم المساواة بين دول الكرة الأرضية التي تزداد هوتُها مع زيادة أطماع "الأسياد" وتهاون الذيول المقصرّين بحق شعوبهم وأوطانهم بسبب بيعهم إياها بثلاثين من الفضّة، تمامًا كما فعلها "يهوذا" الذي باع سيَده لأزلام رؤساء كهنة اليهود ليصلبوه ويميتوه شرّ ميتة قبل أكثر من ألفي عام خلت. دروسٌ بليغة يسوقُها التاريخ وابطالُه ممّن كانت لهم بصمات في تنوير العامة وفتح الطريق أمام اكتشاف زيف ادّعاء الزعماء والرؤساء وسادة العالم. فليس مقبولاً أن يُجعل من الإنسان، خليقةِ الله الحسنة والجميلة، عبدًا للمال وقوته وجبروتِ مَن يتولّون إدارته بغير عدل وإنصاف، بل ينبغي أن يكون الإنتاجُ من الأرض في كلّ بقاع العالم في خدمة الإنسان وحاجاته الإنسانية.
من هنا، لا بدّ أن يكون للأديان السويّة الباحثة عن خدمة الإنسان وتنمية الإنسانية، رؤية واضحة في معالجة حاجات الكائن البشري ومشاكله وتسهيل متطلبات حياته. وما تفعله الكنيسة الكاثوليكية في هذه الظروف الصعبة عبر نشاط رئيسها الأعلى، الرمز الديني والإنساني الجامع لكلمة الحق والصوت الصارخ في البرّية، يدخل ضمن هذه الخدمة الإنسانية والأخلاقية في إطار مفهوم التقارب بين الشعوب وإيجاد الحلول في المسائل الديمغرافية التي لا تتقاطع مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية في مسايرة الحاجات اليومية وتلبية الضرورات المعاصرة من دون القفز على المبادئ الإنسانية العامة وتبرير الوسيلة لتحقيق هدف أو غاية معيّنة. فالغاية عندها لا تبرّرُ الوسيلة، ولكن من دون تجاهل بلورة رؤية معاصرة تأوينية أكثر نضجًا تسلّمُ بإمكانية التنسيق في دمج ٍسلسٍ بين الأخلاقيات الأسرية والجنسية مع الأخلاقيات الاجتماعية والاقتصادية التي لا تخرج عن سواء السبيل، بل تنحصر ضمن إطار القيم العليا للإنسانية وقوانين السماء.