التعليم في العراق.. مؤشرات الخلل ومسارات التطوير
صلاح النعيمي
منذ سنوات والتعليم في العراق ، يشهد تراجعا" لايمكن اغفاله ، في مختلف المستويات ولعموم المراحل الدراسية .
وبداية من مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية ، فإن المدارس عموما" والمعلمات والمعلمين ، قد آثروا ( بصفة تكاد تكون هي الغالبة ) السعي باتجاه تحقيق المنافع الشخصية على حساب حب العلم ونشر المعرفة وأسس تعليم صغارنا واليافعين ..
إذ غالبا" ما يركز المسؤول عن التعليم للحصول على مكاسب الدروس الخصوصية لتغطية نفقاته ومواجهة متطلبات الحياة التي ضايقت معيشته ومعيشة عائلته ، وترى معظم التدريسيين ، لاسيما في اختصاص الحساب والرياضيات واللغة الانكليزية والأحياء والعلوم ، قد ركزوا جهودهم على التعليم الأهلي والدروس الخصوصية في البيوت وفي المعاهد الأهلية ، حيث يعاني الطلبة عموما" من ضعف معلوماتهم في هذه الاختصاصات ، التي تتطلب جهودا" مستمرة في الدراسة والمتابعة ، والتي ما عاد طلبتنا وعوائلهم ، يتحملون أعباءها ..
تدريس خصوصي
فاستسهل الجميع ارسال أبناءهم الى التدريس الخصوصي والمدارس الأهلية ، التي أقل ما يقال عن معظمها .. أنها تسعى للجانب المالي أكثر من سعيها لتطوير العلم ومعلومات الطلبة ( بسبب ارتباط المدرسين المعروفين من ذوي السمعة بأكثر من مدرسة أهلية ومعهد أهلي وازدحام جداول دروسهم ) ..
ومع ذلك ، فلايمكن نكران جهود بعض المدارس المتميزة ووجود حاجة ماسة للمدارس والمعاهد الأهلية لاستيعاب الأعداد الكبيرة الطلبة وتغطية العجز في المدارس الحكومية ، ما يتطلب تقييم مستوى هذه المدارس بطرائق علمية وعلى وفق معايير لجودة التدريس ، تعتمدها وزارة التربية .. لتصحيح المسارات الخاطئة .
المؤشر الأكثر سلبا" في المجتمع التعليم على نحو عام .. ان الجميع يقبل ويتبنى معادلة خاطئة .....
( أن من يريد ان يتعلم من الطلبة فليحرص على أن يستفيد .. ومن لايريد ، فإن مكانه موجود في المطاعم والكافيهات المنتشرة حول تلك المدارس ، والتي تغط بأعداد كبيرة منهم .. صباحا" ومساءا" ) .
هذه الأمور حقائق ثابتة لاتقبل التأويل ويتم الحديث عنها بجرأة من جانب الحرص الوطني والحرص على مستقبل الأجيال ، لأجل تسليط الضوء على السلبيات للعمل على معالجتها ، وليس لأية أهداف أخرى .
وعلى مستوى التعليم العالي ، فإن الجامعات أصبحت تتقبل المستويات المتدنية علميا" من الطلبة وتفاعلت مع الموضوع واستجابت له بتوسعات هائلة (غير مدروسة ، نتيجة ضعف اجراءات الرقابة في التعليم الأهلي أو تراجع فرص الإلزام وفرض الارادة من قبل الوزارة ، الى جانب توجه الكثير من المؤثرين ( كثير منهم أصحاب نفوذ سياسي) في الدخول الى (حلبة السباق ) ، بحثا" عن المغانم والأرباح الهائلة التي تحققت لبعض الجامعات الأهلية خلال سنوات قليلة ( مع الإشارة الى وجود عدد محدود من الجامعات الأهلية ، يتفوق في مختبراته وبناه التحتية على العديد الجامعات الحكومية ( لكي لانبخس الحقوق ولا نعمم السلبيات ) .
وقدأسهمت بعض القوانين الخاصة بقبول فئات معينة في التخصصات الطبية وفي الدراسات العليا ومنحهم درجات أفضلية ، بتراجع واضح في المستوى العلمي وسمعة خريجي الجامعات العراقية في السنوات الأخيرة .. إذ ابتعدنا في حالات كثيرة عن قبول النخبة والمتفوقين مقارنة بفئات تتاح لها مقاعد الدراسة بسهولة ...
كل هذه الأمور أدت الى أن يتراجع المستوى العلمي ومستوى التعليم في العراق الى حدود لم تعد مقبولة .
بعد أن كان العراق محطة لدول الجوار والدول العربية عموما" ... وكان الطالب العراقي في مقدمة المبتعثين من دول العالم ، في غالبية الجامعات الأوروبية والأمريكية ذات السمعة والمكانة المتقدمة عالميا" .
ومازاد الطين بلة ( كما يقول المثل الشعبي ) ، توجه أعداد معينة من أصحاب مناصب عليا في الدولة أحيانا" ( البعض منهم أكمل دراسته المتوسطة والاعدادية والجامعية على عجالة ) للحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه من جامعات توصف بكونها ( غير رصينة ) ..
وبناءا" على ذلك استغل أبناء المجتمع بغالبية شرائحه محاولات نيل هذه الشهادات بأية وسيلة ، عن طريق المراسلات والتعليم الالكتروني (استغلالا" لتأثيرات جائحة كورونا ، مقابل تساهل تعليمات الوزارة وتخفيف شروط معادلة الشهادات لعام 2020، التي شارك في اعدادها البرلمان بفاعلية وفرضها على الوزارة بلا حول ولا قوة ..
(ألغت المحكمة الاتحادية بعض فقرات القانون النيابي ، لكن بعد فوات الأوان وبعد انتفاع كثيرين من الفجوة التي حصلت ) .
وبعد أن برزت اعلاميا" ، حالات تزوير الشهادات العليا للدارسين في الجامعات اللبنانية ( بحدود 27000سبعة وعشرون الف شهادة عليا ، كما تناولتها وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الرسمية ، دون حلول ملموسة لمعالجتها أو رفضها ..
وبدون اغفال أن الوزارة قامت مؤخرا" بالغاء الاعتراف بالجامعات اللبنانية ، فيما عدا الجامعتين الأمريكية داخل الاراضي اللبنانية .
ومازاد الطين بللا" أكثر تأثيرا" .. بعض القرارات غير المدروسة جيدا" .. حيث السعي الى الظهور في التصنيفات الجامعية بأي ثمن ، فشهدنا صدور تعليمات وزارية الى الجامعات ، تتقدمها عبارة ( نسب معالي الوزير ) .. لمضاعفة أعداد دراسة الدكتوراه وزيادة أعداد برامج الدكتوراه فيها ، مع تقليص القبول في دراسة الماجستير ،
ليس على أساس دراسات شخصت احتياجات سوق العمل ( القطاع الحكومي والقطاع الخاص ) ، كما تفعل جامعات العالم بأجمعه ..
وإنما على أساس رفع مستوى التصنيفات ،
أي الدفع باتجاه الحصول على درجات أعلى وتحسين المواقع في التصنيفات العالمية .
بينما يتطلب الأمر معالجة أوضاع آلاف من حملة شهادة الدكتوراه ، فاقدي الأمل ، من الذين يتظاهرون بين مدة وأخرى على أبواب الوزارة ومؤسسات الدولة .
(النص ورد بشكل واضح بكتاب الوزارة / قسم الدراسات العليا المرقم م ت و/3726 بتأريخ9/6/2022).
لقد تميزت الجامعات العراقية منذ الخمسينيات بسمعة علمية عالية المستوى ، حينما لم تكن هنالك تصنيفات عالمية واستمرت بالحفاظ على مكانتها اقليميا" وعالميا" في سنوات لم تكن فيها مشاركة في التصنيفات العالمية .. وتراجعت سمعتها كثيرا" في أيامنا ، رغم حالات الظهور في التصنيفات العالمية ( وهو حق مكفول ان تتنافس عالميا" ، لكن المشكلة تكمن في الوسائل والطرائق المعتمدة لأجل الظهور في هذه التصنيفات (والذي ينبغي أن يترافق مع اجراءات تحسين البيئة الجامعية وتطوير طرائق التدريس وتحفيز حب العلم والمعرفة وتشجيع الابداع والمشاركة والتفكير النقدي ، بديلا" عن أساليب التلقين والحفظ لأجل النجاح في الامتحانات) ..
وينطبق ذلك على البحوث العلمية المنشورة في المجلات العالمية ، التي تزايدت أعدادها في السنوات الأخيرة ، لكنها أبرزت لنا مسارات الوقوع ضحية للمجلات المفترسة وأصبح التدريسي الجامعي والطالب الجامعي ، يدفع الثمن بالدولار ( يتراوح المبلغ المدفوع لنشر كل بحث بين 400- 800دولار حسب اهمية المجلة ضمن مستوعبات scopus ويصل المبلغ المدفوع الى أكثر من 1000دولار للحصول على نشر في المجلات المعتمدة Clarivate).
كل تلك الأمور مرتبطة باشتراطات الوزارة لتناغم البحوث المنشورة مع متطلبات الترقية العلمية الى مرتبة أعلى( فيما يخص التدريسيين) أو حصول طالب الدراسات العليا على درجات اعلى في مناقشات الماجستير والدكتوراه ، حتى تدفع اطروحته أو رسالته الى مرتبة الأمتياز "
وبالنتيجة ، نحن نخسر العلم بديلا" عن أن نربحه ونعزز السمعة والمكانة العلمية ..
مثلما يوصف بعض الأشخاص في المجتمع بأنهم يحبون المظاهر وجيوبهم مفلسة ( مع الاعتذار للتشبيه ) ..
تقرير أممي
تقرير الأمم المتحدةالأخير ، الصادر في شهر أيلول/2022 يشير الى أن العالم تراجع (5) سنوات في مجال التعليم والصحة ومستوى المعيشة ، بسبب وباء كورونا ..
ولايزال البعض يتحدث عن تقدمنا في مجال التعليم خلال سنوات الأزمة، ويتفاخر بدخول بعض التصنيفات العالمية ، رغم اشغال بعض الجامعات العراقية مواقع متأخرة ( غير تنافسية ) مقارنة بدول عربية واقليمية ، لم تكن سمعتها ولا مكانتها ولا تأريخها ، يوازيان سمعة الجامعات العراقية ومكانتها وتأريخها .لانرغب أن نقلل من بعض الجهود العلمية المبذولة ..
وهنالك الكثير من الإشراقات (على مستوى أشخاص أو قيادات جامعية أو مجموعات محددة ) ، لكننا نوجه النقد بايجابية الى المسارات المعتمدة في ادارة المنظومة التعليمية ..
بداية من الروضة والى الدراسة الجامعية وما بعدها ،
يدفعنا الى ذلك ، حرصنا الشخصي على مؤسسة عملنا في خدمتها سنوات تجاوزت الثلاثين بمواقع ادارية وقيادية واستشارية ..
الى جانب حرصنا الوطني على مستقبل أجيال العراق وسمعة ومكانة التعليم الأساس والجامعي ( الذي يشاركنا فيه الكثيرين من داخل الوزارتين والجامعات في حرصهم وتفانيهم واخلاصهم في أداء المهمات) .
نأمل أن تتصف المرحلة المقبلة بمراجعة الذات والتقييم الحقيقي لوضع المنظومة التعليمية برمتها .. والحلول لازالت ممكنة إذا ما آمنت القيادات السياسية والتعليمية بضرورة
( تبني مسارات الوقفة التقويمية ) ،
فعقول العراقيين لاتضاهيها عقول ..
وإن مشكلتنا ، تكمن في دقة اختيار الشخصيات للمواقع القيادية وغلبة المصالح والمنافع الشخصية على المصلحة الوطنية ومصلحة الرقي بالتعليم ومتطلباته .
يشير الدستور الى ان التعليم متاح لجميع أبناء الشعب ، لكن بفرص متكافئة . . تضمن حقوق المواطنين والأهم ،
أن تضمن حقوق الوطن في بناء سمعة ومكانة مرموقة للتعليم على اختلاف مستوياته .
مقترحات للمعالجة :
- اختيار قيادات ( على مستوى الوزارات والمدارس والجامعات) باعتماد معايير الكفاءة والخبرة والتدرج الوظيفي (بعيدا" عن طالبي المناصب ، وبعيدا" عن متلازمات السياسة) .
- الفصل بين التعليم والسياسة ، والفصل بين التعليم والضغوط والممارسات الالزامية ، بحيث تتولى قيادات الوزارتين مسؤولية تنظيم ومتابعة الشؤون العلمية والتربوية .. وتتولى لجان التربية والتعليم في البرلمان مهمة الاشراف والرقابة على أداء الوزارتين والمحاسبة والمساءلة عن طريق الهيئات والمؤسسات الرقابية والقضائية .
- تقييم مستويات أداء المدارس والجامعات الحكومية والأهلية ، على حد سواء واعتماد معايير معروفة عالميا" للارتقاء بأداءها .
- اعادة تقييم العلاقة بين أطراف العملية التعليمية
(الطالب - التدريسي -المنهج )
باتجاه توسيع مساحات الحوار والمناقشة والمشاركة التفاعلية داخل الصف الدراسي والمختبرات التعليمية ، بديلا" عن أساليب التلقين والحفظ كأساس للنجاح في الامتحانات التقليدية .
- الغاء البدع التي جرى ابتكارها ضمن مسميات ( التوسعة في الدراسات الأولية والعليا والدور الثالث والدور التكميلي ) ، من خلال تضامن جميع الأطراف (السياسيين والبرلمانيين وقيادات الوزارتين وعوائل الطلبة ) للعمل على نهضة التعليم والقبول بأن الاجتهاد والتفوق مسؤولية الطالب والعائلة وأن الاجتهاد والمنافسة معايير للنجاح والتقدم .
- اعادة النظر بمتطلبات وآليات تقييم البحوث العلمية ، باتجاه البحوث التطبيقيةالتي تدعم الاقتصاد الوطني وتطوير مؤسسات الدولة ، والبحوث الفكريةالتنظيرية التي تنفع المجتمع وتطور العلم والمعرفة .
-اعادة النظر بتعليمات وضوابط الترقيات العلمية والدراسات العليا ، باتجاه الموازنة بين النشر في المجلات العلمية داخل وخارج العراق ، مع أهمية إعادة بناء أسس ومتطلبات المجلات العلمية التي تصدرها الجامعات والمراكز العلمية والبحثية ودعم مكانتها لتتناغم مع المعايير العالمية للجامعات .
نتمنى للتعليم في العراق ، أن ينهض ويستعيد مكانته التي كان جديرا" بها.
الله والوطن من وراء المقاصد .
{ المستشار السابق لوزير التعليم العالي والبحث العلمي