هيثم فتح الله يحاكي كاميرة جاسم الزبيدي
رياض عبد الكريم
لم يكن هيثم فتح الله متخصصا بالشأن الطباعي فحسب ، وانما اسمتزج افكاره واساليبه الفنية والتقنية لاظهار نتاج العمل الطباعي بصورة تلفت الانتباه وتحيّر المشاهد او القارئ وتدهشه لانها تجاوزت العمل التقليدي المعتاد ، فهو الدارس لعلم الفيزياء في بغداد – الجامعة المستنصرية – والذي حرك كل المخرجات الفيزياوية لتترك تأثيراتها على العمل الطباعي ، وتظهر جمالياته بدقة بارعة وزهو جميل ، تجاوز الحدود المتاحة وقلب المنظور وهو يتحرك ديناميكيا مابين مكائن الطبع ومتطلباتها واجهزة التصويرواستخداماتها والكومبيوتر وبرامجه ، مستفيدا من خبرته المعمقه وخزينه الفكري ورؤيته الفنية في مجال التصوير الفوتغرافي الذي برع فيه عبر اكثر من ثلاثة عقود من الزمن عندما بدأ امتهان هذا الفن الرائد في المجال الرياضي والصحفي حيث حقق نجاحات ملفتة للانتباه عبر اكثر من عشرة معارض فنية اقامها في بغداد وعمان كانت هويتها الصورة الفوتغرافية المصنعة فنيا وتقنيا وفق رؤيته الخلاقة لتجعل من نتائج العمل مبهرة وان اختلفت عن الاصل الا انها قد تكون في بعض الحالات وكأنها لوحة تشكيلية ، لانه يتلاعب بألوان الصور وكادرها كومبيوتريا ويضيف عليها لمساته الفلسفية والفنية ليظهرها وكأنها عمل تجريدي مكتمل اسس النجاح ومتعة المشاهدة .
استغل هيثم هذه الخبرة وتراكم التجربة ، لان يتوسع في مجال العمل الطباعي بل وفي مجال الكتابة والـتأليف ، فعمد الى تأليف سلسلة من الكتب أرخت ووثقت بعض رواد الفن الفوتوغرافي، من بينهم مراد الداغستاني وناظم رمزي وهادي النجار، كذلك ساهم في اصدار عشرات الكتب لفنانين تشكيليين ومعماريين واخرين اكاديميين من مختلف الاختصصات الثقافية والفكرية والتأريخية، وقد امتازت هذه الاصدارات التي طبعت في شركة الاديب في عمان بروعة الاخراج والتصميم والطباعة والتجليد بشكل يضاهي الانتاج العالمي ويفوق عليه بالمعالجات الفنية وابتكار الاساليب المخفية عن ممتهني العمل .
ولعل كتابه الاخير الذي صدر في عمان عن شركة الاديب بعنوان جاسم الزبيدي الثائر بعدسته ، يشكل باكورة انتاجه - ولانعرف ماذا سياتينا من هيثم في المستقبل - الا ان هذا الكتاب يعتبر نقلة نوعية في سلسلة اصداراته المتخصصة في شأن التصوير الفوتغرافي ورواده المصورين ، كونه امتاز بسلاسة الاسلوب واختيار اهم المحطات في رحلة الراحل جاسم الزبيدي واختصار المساحة الزمنية التي احتلتها سيرته المهنية ، دون الاسفاف والاطالة لامور لاتضيف الجديد والمهم ،الامر الذي يريح القارئ ويجعله مستمتعا بالقراءة ومساحات الصور ، وكأن هيثم اراد ان يترك للصورة مساحة واسعة للتعبير وللتحدث عن المكنونات الشخصية لجاسم الزبيدي وفلسفته في الحياة ، من جانب ، ومن جانب اخر لم يشأ هيثم ان يعد نفسه ناقدا او مستعرضا لحياة ومهنية الزبيدي ، بل اراد ان يبين من ان الصور المنشورة في الكتاب هي ابرع في التعبير عما يمكن ان يضيفه من كتابات وحسنا فعل هيثم لان القارئ يريد ان يعرف الزبيدي وتطلعاته ومبادئه من خلال منجزه وموقفه الذي عبرت عنه صوره الفوتغرافية ،ونجح هيثم في استعراض حياة ومهنية الزبيدي من خلال التسلسل الزمني لنشر صور الكتاب التي أرخت مسيرته وحددت مواقفه ووضحت مبادئه وفلسفته في الحياة وفي التصوير .
اروع مافي الكتاب الذي يقع في 304 صفحات من القطع الكبير، هو ترتيب الصور من حيث موضوعاتها ، فجاء هذا الترتيب مدروسا ودقيقا ، اكيد استغرق من هيثم جهدا كبيرا ووقتا طويلا ، فكل صفحتين متقابلتين يربطهما مع بعض موضوع واحد ، بل تكاد تتشابهان في الزاوية والمنظور، وهو عمل ليس بالسهل اذا ماعرفنا ان الكتاب يضم 265 صورة ، وهذا يعززالرأي الذي ذكرته اعلاه من ان هيثم تقصد في ذلك تاركا الحديث للصورة من خلال موضوعها وزاويتها الفنية، في حين اعطى لبعض الصور مساحة الصفحتين للتأكيد على اهمية الصورة وبراعة اللقطة واهمية موضوعها ، وجاءت بالفعل هذه الصور معبرة عن جمالية وموضوعية ودقة الاختيار ولحظة اللقطة ، وهذا مأكدته معظم صور الراحل الزبيدي والذي اشار اليها هيثم في اكثر من فقرة في كتابه من ان الزبيدي كان ذكيا في اختيار اللحظة المناسبة لالتقاط الصورة وهو اشبه بالقناص حين يحدد لحظة اطلاقه رصاصته التي حتما تصيب ونادرا ماتخطئ .
من بين خصائص الكتاب الجيدة جدا هو حرص هيثم على اظهار الصور بدقة عالية ، فقد عمل على تحسين وضوح الصور وتنقية اجوائها جاعلا منها وكأنها اخذت توا لا كون عمر هذه الصور اكثر من اربعين عاما وهذا جهد كبير يحسب لهيثم الذي تعامل مع الصور برؤية فنية وتقنية عالية المستوى مزيلا كل الزوائد مركزا على عمق واهمية موضوع الصورالتي جعلها بالابيض والاسود وهي فكرة ذكية من هيثم ليعطيها بعدها الزمني الذي يقود الى سبعينيات القرن الماضي .
"وظيفة الصورة هي تقديم عمل فني فيه احساس بشري ، وفيه مسحة جمال لافتة ، ومفردات بصرية تنم عن حركة واستقراء لواقع الحياة اليومية ، وعلى هذا النحو ترقى الصورة الى مستوى وثيقة لخزن الذاكرة الاجتماعية كما هي رسالة مهمة للذائقة البشرية." من هذا المنطلق الذي ذكره هيثم في معرض كتابه ، فأن هذا الكتاب هو وثيقة تؤرخ ازمنة لاماكن عديدة كان فيها الحدث هو الشاهد ، ويضيف ""للتصوير علاقة متينة بالحس الذاتي للمصور ، فهو من يخلق المعادلة الابداعية للصورة من عتمة وظل وضوء بالاضافة للموضوع" .