الأستاذ الجامعي .. الأنموذج والقدوة
حسين الزيادي
في احد الايام كنت جالساً مع احد رؤساء الجامعة، وكان هناك نقاش محتدم بين استاذين حول موضوع علمي معين، وفي هذه الاثناء دخل علينا العامل القائم بأمور الاستضافة واضعاً امامنا اكواب الشاي، وعندما خرجت مازحته ببعض الكلمات وهكذا كانت عادتي مع العمال والمنظفين، فاستوقفني الرجل متسائلاً (دكتور انتم هم تتعاركون)، فابتسمت بعفوية قائلاً له : انه مجرد نقاش ونحن بشر يا اخي، الحادثة على بساطتها علقت في مخيلتي، وعلى الرغم من المبالغة في قول العامل لكنها مبالغة تفرض على الأستاذ مسؤولية كبيرة، فالأستاذ الجامعي هو النموذج الذي تتطلع إليه أنظار الآخرين، بل يكاد ينسى البعض أن الأستاذ الجامعي بشر مثلهم، لأنهم ينظرون اليه نظرة خاصة، حتى أنهم يجعلونه في بعض الأحيان ميزاناً للخطأ والصواب، فكلامه وتصرفه صحيح، وكلام وتصرف غيره ممن خالفوه ـ يحتمل الخطأ، ويتصورونه دائما بلا أخطاء وبلا هنات.
التعليم رسالة الأنبياء وهو من أشرف المهن وأسمى الرسالات، وله قدسية خاصة توجب على القائمين بها أداء حق الانتماء إخلاصاً في العمل وصدقاً مع النفس ومع المجتمع، وعطاءً مستمراً لنشر العلم والمعرفة وغرس الفضيلة والاخلاق، وفي القمة تأتي مهنة التعليم الجامعي فهي مهنة نبيلة بأهدافها، مقدسة برسالاتها، مثمرة بحصيلتها الهادفة اذا أُوديت بشكلها الصحيح، لذا يحظى التعليم في كل مجتمعات العالم، مهما كانت أوضاعها ومستوياتها ومواقعها في سلم التنمية البشرية، باهتمام ورعاية كبيرين، ولا تقع مسؤولية هذا الاهتمام وتلك الرعاية على الجامعات والوزارات المعنية فحسب بل يشاطرها كل من المجتمع والدولة، ولكي تكون هذه المهنة الشريفة ناصعة متألقة على الدوام فان الاهتمام يجب ان يوجه الى الاستاذ الجامعي بوصفه الركيزة الاساسية في التعليم الجامعي، فضلاً عن كونه انموذج وقدوة يبعث برسائل خلقية مؤثرة لا تقل تأثيرا عن الرسائل العلمية التي يقدمها للطالب، الأمر الذي يحتم عليه أن ينتهج سلوكا قويما في أفعاله وأقواله ليكون أنموذجا فاضلاً يحذو الطلبة حذوه ويتمثلون به، لأنه يسهم في بناء القيم وتوجيه السلوك ، فضلاً عن اكساب المعارف والخبرات والمهارات.
يعد الاستاذ الجامعي صفوة الطبقة المتعلمة والقلب النابض لعملية التعليم والقدوة في كل تصرفاته وسلوكياته، وهو الاقدر على توفير بيئة معرفية وفكرية خصبة للطالب الجامعي، وتحفيزه لاستثمارها في عملية التعليم الذاتي والمستمر ويفترض ان يكون قمة في كل شيء ورأس ذلك الأخلاق، اخلاق المهنة اولاً، ومن ثم الأخلاق الفاضلة التي يجب ان يتحلى بها كل انسان قويم ، فما بالك اذا كان هذا الانسان استاذا جامعياً يربي الأجيال، ويرفد الوطن بخيرة الشباب والخبرات ليتخرجوا من تحت يديه قياديين أمناء على مصلحة الوطن وصون مكتسباته ، للوصول به الى مصاف الدول المتقدمة حضارياً، وقد ادركت الجامعات المرموقة تلك الحقيقة، لذلك عندما يتم تعين استاذاً جديداً تضعه تحت مجهر التجربة لمدة لا تتجاوز الست سنوات، بعدها، يتم تثبيته أو الاستغناء عن خدماته. وخلال فترة التجربة، يطلب منه أن يحقق مجموعة من الإنجازات في مجالات البحث العلمي والتدريس وخدمة المجتمع للتأكد من جودة عطائه وإنتاجيته.
غزارة علمية
السمات الأساسية التي يجب على الأستاذ الجامعي أن يتحلى بها تتمثل في رحابة الصدر وحسن الحديث مع الآخرين، والغزارة العلمية، والاشتغال بكثرة المطالعة والبحث والتصنيف، ومتابعة طلبته والاستفسار عن أحوالهم، والتعامل مع المتعلمين بالعدل والمساواة، وإشراكِهم في التعليم لإثارة دافعيتهم نحو التعلم، وأخيراً تقدير شخصية الطالب واحترامها، تلك هي من أهم السمات الأساسية التي يجب أن يتحلى بها الأستاذ الجامعي ليكون مثالاً يقتدى به بالإضافة إلى دوره بالبحث العلمي، والمشاركة بالندوات والمؤتمرات العلمية والتربوية، وخدمة المجتمع، بمواجهة كافة المشكلات وإيجاد الحلول لها، بالإضافة إلى التطور الذاتي المستمر بما يواكب العصر وتطوراته، فهو محور العلمية التعليمية؛ ينهض بالطلبة بغض النظر عن ضعف المقرر الدراسي، وعن مستواهم التعليمي، فعملية التدريس من أولى مهام الأستاذ الجامعي، فمنهم من يعتمد على الأساليب التقليدية، ومنهم ما يفضل الأساليب الإبداعية، فالتدريس الجامعي عملية حيوية تفاعلية، الغرض منها تحريك الحواس المختلفة لدى الطالب؛ لتقوم بدورها في ملاحظة الواقع ورصد ما يحيط به بدقة وموضوعية، وممارسة التقويم والإبداع في التدريس.
من أهم الصفات التي يجب توافرها في الاستاذ الجامعي أن يكون ملماً بدرجة عالية بالتخصص الذي يقوم بتدريسه، ومن هنا فان من اللازم أن يكون الاستاذ قد أُعد إعداداً تخصصياً بدرجة تؤهله لأن يكون مزوداً للمتعلمين بالمعارف في هذا التخصص ومرشداً لهم في عمليات الاكتشاف والاستقصاء فيه، ولا ينبغي أن تقتصر معارف المعلم على المعلومات المشمولة في التخصص، بل لا بد أن يدرك طبيعة التخصص ومميزاته ، والعلاقات بين أجزائه وعناصره المختلفة ، وطبيعة التحقيق والاستقصاء والدراسة والتجريب فيه
بما أن المعارف تتطور وتتحدث بشكلٍ متسارع ، فقد أصبح لزاماً على الاستاذ الجامعي أن يتابع ما يستجد في مجال تخصصه من أبحاث ودراسات وغيرها. وتتم ترجمة التخصصات المختلفة في المؤسسات التعليمية بوساطة المناهج والمقررات الدراسية التي تعكس هذه التخصصات.
لقد طرأ على مفهوم التعليم تغيرات كبيرة وأصبحت مهنة التعليم تتطلب نشاطات أكثر وحرفية اعمق لاسيما فيما يتعلق بالتعليم الالكتروني والتعليم عن بعد، ولم يعد التعليم مجرد تنظيم للمعارف ونقلها من المعلم إلى المتعلم، وتعنى الجامعات اليوم ببناء الانسان، وتحسين ظروفه، فهي منظمات أخلاقية بالضرورة، تُعْنَى بالبناء العلمي والمعرفي والخـلقي للطالب، وتسهم في بناء شخصيته، وبالتالي عليها أن تحرص على تنمية بيئة أخلاقية في التنظيم وإلا عجزت عن النهوض برسالتها، فلا انفصال بين تحقيق رسالة الجامعة وبين التزامها الاجتماعية والفكرية، فالجامعة اليوم هي أمل المجتمعات المعاصرة في إمدادها بالعناصر الكفؤة التي يعول عل?ها لقيادة التنمية في مختلف مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهناك جملة من المحددات التي تحكم السلوك الجامعي في البحث والمعاملة، وهو ما اصطلح عليه (أخلاقيات العمل الجامعي) وهي قيم علمية يشترك فيها جميع العاملين في مجال التعليم الجامعي، لذا يجب أن تحظى هذه القيم بالرعاية والمتابعة لأنها الوعاء الذي يستوعب العملية التعليمية، والاستاذ الجامعي بغض النظر عن اختصاصه، انسانياً كان أو علمياً، فهو تربوي قبل كل شيء، لذا عليه فهم الأسس الاجتماعية للتربية، ويسهم بفعالية في إرشاد وتوجيه الطلاب لكونه جانب مهم في العملية التربوية. أي إن مهمته من مهمة تربوية تسعى الى إضفاء المسحة الثقافية على طلابها والتأثير في سلوكهم وطرائق تفكيرهم .
وتأسيساً على ما تقدم يجب ان يتسم الاستاذ الجامعي بسمات شخصية وصفات نفسية ومعرفية واجتماعية وثقافية، منها العدل والمساواة والصبر والتعامل الحسن وغزارة المادة العلمية وكفاية في شرح المادة وقدرة على جذب الانتباه باستخدام اكثر من طريقة تتناسب مع المادة التي يدرسها.
اسس سليمة
انَّ نوعَ وحدود العلاقة بينَ الأُستاذ الجامعي وطلبته تعد من أهم الأمور التي تخدم العمليةَ التعليميةَ برمتها، فكلّما كانت العلاقةُ مبنيةً على أُسس وقواعد سليمة اقتربنا من تحقيق نتائج إيجابية لهذه العلاقة، فعلاقةُ المعلم بالمُتعلِّم علاقةٌ قديمةٌ وهي مثار بحث ودراسات عند الكثيرِ من العلماء ولاسيما علماء التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، فهي علاقةٌ بكل بساطة لا يُمكِن اختصارها بسطور ولا يمكِن اختصارها فقط بصفات وأخلاقياتِ المعلم سواء كان هذا المعلم أُستاذًا جامعيا أم غير ذلك،
ومع ذلك تبقى هناك حدود وخطوطٌ يجب على كلا الطرفين -المعلم والمتعلم- عدمُ تجاوزِها، ومن أبرزِ هذه الحدود هو: عدم انتقالِ العلاقة بينهما إلى خارج الحدودِ الزمانية والمكانيةِ للعمليةِ التعليميةِ، إلا إذا كان هناك ما يبررها بما يخدم العمليةَ التعليمية، فعلاقةُ الأُستاذِ الجامعي بطلبتِه يجبُ أنْ تكون داخل هذه الحدود،
كما يتوجّب أنْ تتوفر بعض الأمور التي تضمن بناءَ علاقةٍ جيّدة قائمة على الحب والتقدير بين الطالب والأُستاذ الجامعي، وهذه الأُمور مرتبطةٌ بالأستاذ الجامعي، وهي التعامُلُ والنظرُ إلى جميع الطلبةِ نظرةً واحدةً متساويةً دونَ التفريق بينهم.
ان حقيقة منزلة الأستاذ الجامعي بالنسبة للطالب هو القدوة، وإن سلوكه الذي يظهر فيه أمام طلبته هو محل اعتبار لهم في تصحيح وضبط سلوكياتهم، ويكون لهذا السلوك أثره النفسي لدى الطلبة وأثره المجتمعي أيضًا باعتبارهم أفرادًا منه؛ ولذا تقع على عاتق الأستاذ الجامعي مسؤولية أخلاقية إضافة إلى مسؤوليته العلمية.
فضلاً عما تقدم يعد الاستاذ الجامعي رمزاً من رموز الدولة وذلك من خلال الدور الذي يؤديه وهو تطبيق فلسفة الدولة من خلال العملية التعليمية والبناء المعرفي والفكري للأجيال الصاعدة، ولتحقيق ذلك يجب ان يكون ادائه متكاملاً يهدف الى بناء الانسان ، وبعد هذه الجولة السريعة، نعرِّج على بعض من أساسيات المهنة، وهي عبارة عن سياسات لها الأثر البارز في تنمية الجانب المعرفي لدى الطالب، والتي ينبغي للأستاذ الجامعي مراعاتها:
1- أن يحرص على أن يكون متقنا للمادة الدراسية التي يكلَّف بتدريسها، وأن يعمل على تطوير مقدرته فيها وبشكل مستمر.
2- أن يبين للطلبة مفردات المقرر الدراسي والأهداف التي يراد تحقيقها، وكيفية الإعداد للمحاضرة، وأسس تقييم الطالب، ونمط الامتحانات، وتوزيع الدرجات.
3- أن يعمل على الإحاطة بالمادة مستوفيًا لها وما يستجد فيها، ويرشد طلبته إلى المصادر والمراجع التي يمكن للطلبة مراجعتها والإفادة منها.
4- التحضير الجيد للمادة الدراسية مع الإحاطة الوافية بمستحدثاتها؛ ليكون متمكنًا من المادة.
5- أن يجيد استثمار وقت المحاضرة، وكيفية توزيع الوقت بين التمهيد لها وأصل موضوعها، وفتح الحوار والمناقشة مع الطلبة.
6- أن يعمل على تنمية مهارة التفكير الناقد لدى الطلبة بفسح المجال أمامهم للمناقشة وإبداء الآراء، والاستماع لها بشكل جيد، ويُظهِر لها الاحترام إن كانت مرتكزة على أسس علمية ومنطقية، وإلَّا فليلفِتْ نظرَ الطالب إلى مواطن الخلل في تفكيره.
7- أن يحاول التجديد في أسلوب التدريس ولا يتبع نمطًا محددًا؛ ما يثير انتباه الطلبة ويجعل محاضرته شائقة وذات فائدة.
وهناك من يقسم المقومات الى شخصية واجتماعية تشتمل الاولى على قوة الشخصية والثقة بالنفس والهدوء والاتزان والمرونة في التفكير وتحمل المسؤولية ورحابة الصدر، اما المقومات الاجتماعية فتنطوي تحتها: التواضع والابتعاد عن الغرور والتكبر والتعاون مع الاخرين لاسيما الطلبة واحترام مشاعرهم وتشجيعهم، فضلا عن الصبر والحكمة والتسامح والملاطفة والبشاشة. وهناك المقومات الاكاديمية والتعليمية وتشتمل على العدالة والخبرة وغزارة المادة العلمية وجودة الالقاء والقدرة على ضبط المحاضرة والتعامل مع الاحداث والمرونة وافساح المجال للنقاش والحوار ، وجميع هذه لمقومات تنطوي تحت عباءة مقومات القدوة الحسنة.
وتأسيسا على ما تقدم يجب على المؤسسات الجامعية التشدد في الالتزام بالأعراف الأكاديمية والسعي الى مراقبة تنفيذها ونبذ الفردية في اتخاذ القرارات ورسم السياسات، وقطع الطريق امام التعصب الفئوي والطائفي، مع ضمان حرية الدين والعقيدة والفكر والإبداع وصولاً الى تحقيق سيادة المجتمع المدني وروح الحوار والتسامح و نبذ العنف والعدائية والتميز والتحيز وضمان التقييد بمبادئ الديموقراطية في الوسط الأكاديمي، اما القيادات الجامعية فمن السمات الاساسية لنجاحها هي: الانبساطية، والديمقراطية، وروح التعاون، وتحمل المسئولية، والتسامح، وتقبل النقد، واحترام آراء الآخرين.