الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حَجّاج محنّك شديد شجاع عادل بإنتظار العراق

بواسطة azzaman

حَجّاج محنّك شديد شجاع عادل بإنتظار العراق

لويس إقليمس

 

مهما قيل عن تسلّط الحجّاج بن يوسف الثقفي وشراسته وشدّة حكمه على العراق وأهله، إلاّ أن لكلّ مرحلة قيادتها وإدارتها وسيادتها. فتفاصيل سير الأمور في أية بقعة من الأرض تفرضها الظروف الزمكانية والعقلية الحاضرة والرؤية التي تنجلي فيها إدارة الحاكم بالاستفادة من المسببات والحيثيات والقرائن والتجارب. فعندما تولّى الحجّاج إدارة العراق، كانت الأوضاع مائلة إلى الخراب والسلطة المركزية على وشك الأيول والانحلال والضعف بسبب تقاعس العسكر وكثرة الفتن وزيادة الاعتراضات على الدولة الأموية وعلى موقع الخليفة عينه. أي كانت دولة الخلافة أقرب إلى ما يشبه التمرّد على الإدارة المركزية بسبب تشتت الولاءات وتكاثر الاجتجاجات وبروز أشابه جماعات تدّعي أحقية السلطة لنفسها بخروجها عن طاعة أوامر الخليفة. وهذا ما حدا بالخليفة الأموي أن يسند أمر تأديب أهل العراق بشخص الحجّاح الذي قال خطبته الشهيرة حين اعتلائه منبر الخطابة ملثمًا بعمامة حمراء دليلاً على نيته المبيّتة بسفك دماء كلّ خارجٍ عن طاعة خليفة المسلمين حينذاك. وقد سطّر التاريخ الكلمات التاريخية القاسية لذلك القائد الجبّار العنيد المقدام "يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى... يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل...".

هذه الكلمات شديدة اللهجة مازالت تتردّد على ألسنة العراقيين في خضمّ الظروف الصعبة الراهنة وفي ظلّ الفوضى الخلاّقة التي تشهدها البلاد منذ غزوها في 2003 بسبب غياب الوازع الوطني وتشتّت الولاءات لجهات من خارج الحدود عندما تمّ تسليمُ مصير العراق وأهله بيد الجارة الشرقية وأصبح الجميع رهن إشارةٍ الوليّ الفقيه المتحكّم في المشهد السياسيّ من برجه العاجيّ باتفاق ضمني مع المحتلّ الذي خرجت الأمور عن سيطرته ولم يعد يعرف كيف الخروج من المأزق. فالحلول المرتقبة لإصلاح ذات البين وإعادة البلاد إلى سابق رفاهتها وعظمة حضارتها وفاعلية موقعها وسموّ ثقافتها وحقّها الطبيعيّ بسيادتها الكاملة وفي في مصير أرضها ومياهها وسمائها وبشرها وحجرها وسياستها، كلُّها ما تزال بعيدة عن الأمنيات والإرادات الوطنية المستقلّة وخارج حسابات ساسة الصدفة ومافيات السلطة والجماعات المنفلتة التي تتحكمُ بواقع الساحة السياسية من منطلق حكم جهة مذهبية أثبتت عدم قدرتها وجدارتها وعجزها عن إدارة شؤون البلاد والعباد بسبب احتكامها الأخرق والمشوّه إلى الوازع الديني والمذهبي والطائفي ومبدأ الأكثرية والأقلّية العددية بكثيرٍ من الغباء بسبب فقدان الرؤية الوطنية والإنسانية والفلسفية في إدارة الحكم. بل جلُّ ما استطاعت النجاح فيه وتسليط الضوء عليه هرولتُها في زيادة تخلّف الشعب من حيث يدري أو لا يدري حكماءُ هذا الأخير، هذا إنْ بقي فيه حكماء لا حول لهم ولا قوّة، وفي زرع مفاهيم غريبة من أدوات الفرهود والفساد واللصوصية والسرقة جهارًا نهارًا لإيمانها المطلق باستباحة أموال وثروات وواردات الدولة من منطلق كون هذه الأخيرة حلالًا زلالاً عند بعض أهل الفقه ومرتدي العمائم الذين تحولوا إلى أشبه بمافيات لا تختلف عن رجالات "الأوليغارش" الروسية والنازية بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي. وهذا ما هو عليه العراق في هذه الأيام من مآسي وتراجع في كلّ شيء مقابل صعود طبقة "الأوليغارش" العراقية وأدواتها وزبانيتها إلى الواجهة وسطوتها على عقارات الدولة وعلى أموال الموازنات الانفجارية منذ السقوط المأساوي الذي أحدث تغييرات ديموغرافية وأخرى أشدّ قساوة على أصحاب الدخل المحدود وتراجع في الطبقات الوسطى في المجتمع العراقي وبروز أخرى قتلها الجوع والفقر والفاقة إلى الواجهة بفعل أحزاب السلطة المهيمنة على الحكم المذهبي والطائفي وفق مبدأ "التشارك والتوافق والتوازن" من أجل ديمومة الفساد وتواصل السرقات والنهب بتغطية كلّ فريق على غريمه عندما يتعلّق الأمر بتقاسم المغانم وتوزيع المكاسب وإدامة المصالح.

في انتظار المُنقِذ؟

تحدثت أنباء وبرزت إشاعات، كما تصدّعت رؤوسنا بتعليقات وتسريبات فيسبوكية وعبر قنوات متعددة بقرب اتخاذ قرارٍ دوليّ مرتقب لإعادة الأمور إلى نصابها والخلاص من الشلّة الحاكمة. لكنّ العقلاء يرون في الشعب أكبر قوّة قادرة على إلحاق الهزيمة بالمنظومة السياسية الفاشلة التي أظهرت بعد تسلّمها السلطة من الغازي الأمريكي عكس ما كانت تتحدث عنه من إصلاح لنظام الحكم البائد الموصوف جدلاً بالطاغي والدكتاتوري. لكنّ الدلائل أثبتت أنّ النظام السابق، بالرغم من طغيانه المزعوم في بعضٍ من أدواته وسلوكياته، إلاّ أنّه حافظ على سيادة البلاد وصان وطوّرَ مؤسسات الدولة وقدّمَ الخدمات وأدارَ عملية البناء والإعمار وعاقب كلّ معتدٍ على مال الغير وعرضِه وشرفه، بالرغم من كلّ الملاحظات السلبية التي رافقته في مسيرة حكمه عندما أمعنَ بعضُ رموزه بالتسلّط غير المقبول على بعض المفاصل وتجاوز نفرٍ من أدواته حدودَهم من دون محاسبة أو غضّ الطرف عن بعض الأفعال المشينة المدانة. لستُ هنا مثلَ غيري من المنصفين بصدد الدفاع عن نظام الحكم السابق، لأنّي واحدٌ من المتأثرين سلبًا ببعض قراراته ومن الخاسرين لحقّ وطني سُلبَ منّي ومن خياري المصيري في عام 1975- 1980 ما جعلني أعاني من تداعياته السلبية لغاية زمنِ إنهائي خدمة العلم في عام 1991 عندما اضطررتُ لأداء الخدمة العسكرية الإلزامي لأكثر من 9 سنوات بسبب خللٍ لحق بي. أليس في هذا حيفٌ وأذى ومضرّة أصابتني كما اصابت غيري من المواطنين الذين وقعوا ضحية القرارات الارتجالية والسلوكيات الشائنة وغير المقبولة لأداء بعض مؤسسات الدولة آنذاك؟ فقول كلمة الحق لا بدّ منها. في النهاية لا بدّ أن يظهر الحق بين الخصوم، مهما كانت العلائق والنوايا والإرادات والأفعال.

في مقارنة لما تشهده البلاد والعباد منذ السقوط وقدوم "أبطال المعارضة" على ظهور الدبابات الأمريكية الغازية أو ما بعدها بفضل أحزاب السلطة التي جمعت حولها أرباب السوابق والعاطلين وزبانيتها من مدّعي الدين وأصحاب العمامات من وعّاظ السلاطين لتجييش مجاميع متخلفة لصالح الأولى وإدامة نهج الفساد واللصوصية بشتى الوسائل، نجد بُعدَ المسافات وكذب الادّعاءات بين القول والتصريح وواقع الحال الذي صار عليه البلد والشعب. فهلْ من مكذِّبٍ لواقع الحال؟ لو دققنا فيما آلت إليه الأمور، سنرى العجب العجاب في المآسي والآهات.

وهاذ أصبح معروفًا بل من أبجديات الانتقادات التي توجَّه كلّ يومٍ للأحزاب الحاكمة. تخلّفٌ وتراجعٌ في جميع قطاعات الحياة، الخدمية منها والاجتماعية والثقافية والمدنية والحضارية والعلمية والسياحية والتربوية. ناهيك عن تراجع واضح ومخيف في الواقع الزراعي والصناعي، والأخيران من أعمدة التنمية والتطور والتقدم في أيّ بلد. إضافة إلى فقدان شيءٍ اسمُه السيادة والإرادة والإدارة في تسيير شؤون الدولة التي لا ترتقي جميعُها إلى أدنى مستويات الإدارات في الدول المتقدمة، ولاسيّما الإقليمية منها التي كانت تسعى لبلوغ جزءٍ ممّا بلغه العراق أيام تطوره ورفاهته واصطفافه مع دول العالم المتقدمة لغاية سقوطه الدراماتيكي الأرعن بيد الغزاة وتسليمه على طبقٍ من ذهب لأعدائه التقليديين.

لعلّ من بين السلوكيات السلبية المحسوبة على منظومة الحكم الفاسدة والفاشلة اعتمادُها على المورد الريعي الأساس للنفط الذي تتحكم به أحزاب السلطة، سواءً في عمليات سرقة مكشوفة أو عبر منظومات وجماعات وأحزاب متنفذة تدير عمليات تهريبه ومشتقاته في الداخل والخارج. فيما لم نشهد إجراءات مركزية صادقة وجادّة وحدّية من جانب الحكومات المتعاقبة للسيطرة على منافذ استخراجه وتصديره وصناعته وبما يأتي بالخير الوفير للبلاد والشعب بدل ذهابه لجيوب الفاسدين واللصوص.

حتى المؤسسات التعليمية والتربوية لم تسلم من المأساة عندما عملت مافيات الفساد على ابتزاز وتهديد أصحاب الكفاءات على مغادرة العراق ليبقى البلد رهن تصرّفهم بالتغطية عليهم وعلى فسادهم من قبل أحزاب السلطة ودكاكينها الاقتصادية التي تدير هذه العصابات وتوجهها وفق تعليمات وتوجيهات من خارج الأسوار كي يفرغ المجال لهم من أجل تحقيق أجندات الجهات التي يعملون لصالحها ضدّ الوطن والمواطن. أمّا الحديث عن تدمير القطاع الخاص والسعي لإبقائه مشلولاً، فهو ذو شجون لعدم وجود الإرادة الطيبة لنهوضه بهدف إبقاء سيادة الدولة على كل مرافق الحياة تحاشيًا لفقدان السيطرة والنفوذ والإدارة. وإن ننسى، فلا ننسى جريمة تسليم أكثر من ثلث أراضي العراق لعصابات داعش الإرهابية في 2014 بتقاعس الحكومة آنذاك ومَن تولى الصفحات التالية للغدر بمحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك والأنبار، وهي محافظات محسوبة على الجماعات السنّية والمكوّنات قليلة العدد "الأقليات" التي أُريد لها السقوط والذلّة والمهانة كي لا تنهض من جديد ليبقى مصيرُها بيد جماعات مذهبية وطائفية وعرقية معروفة للجميع.  وهذا ما تعيشه المناطق المحرَّرة منذ زمن التحرير. وسوف تكشف الأيام صدق ما ذهب إليه الوطنيون الصادقون في تحليلاتهم وآرائهم وتوقعاتهم. فالشمس لا يحجبها غربال.

إزاء ما صرنا وصار إليه العراق، لا بدّ من قائدٍ وطني عراقيّ عنيدٍ مقدامٍ على شاكلة "الحجّاج" في الولاء للدولة يحملُ في سرائره وقراراته شيئًا من الشدّة والقسوة المعهودة فيه إلى جانب الحكمة والعدل والروية والحنكة والمكر والدهاء والفصاحة والقدرة على الحديث المنطقي في إدارة البلاد، حتى لو "كان جبرًا لا اختيارًا".

قائد فذ

وهذه من سمات القائد الفذّ الذي يعرفُ رعيتَه ويتصرّفُ وفق سلوك القادة الحقيقيين الذين يقصدون الإصلاح الحقيقي بالعمل والفعل وليس المزيّف على الحبر وبالكلمات الرنانة المعسولة التي تقدّم جرعات تخديرية لأصحاب الحق كي يتخلّوا عن حقوقهم الوطنية والبشرية والإنسانية والاجتماعية وما على شاكلتها عبر استبدالها بمظاهر خدّاعة وشعائر مذهبية متخلفة لا تناسب العصر والظرف بحجة حفظ الهوية الدينية والمذهبية عبر استدرار عواطف البسطاء بهدف ضمان ولائهم لمَن يقدمون لهم الفتات ويسعون لإبقاء فاقتهم تحت تصرفهم ورهن إرادتهم المشبوهة. فمجالس البكاء واللطم والتزمير والترديد التي لا انتهاء لمظاهرها غير الحضارية ومناسباتها على مدار السنة، سوف تبقي البسطاء على تخلّفهم حتى لو كانوا من حملة شهادات عليا وممّن جالوا بلدان العالم واطّلعوا على تقدمها وحضاراتها وثقافاتها بسبب سمة الولاء لإراداتٍ من خارج الحدود التي استولت على ألباب وقدرات وعقول هذه الفئات المتخلفة. فيما يدعو بعض الحكماء من الفقهاء "بتطهير هذه المظاهر وتنزيهها من كلّ ما يشينها ويدنّسها ويخرج بها عن العنوان الصحيح وكلّ ما يمسّ شرفها وكرامتها حتّى يترتّب عليها آثارها المشروعة وغاياتها الشريفة". ومن المؤسف قيام البعض بتحويلها إلى شعائر سياسية واستغلالها لكسب منافع شخصية وحزبية وفئوية ومذهبية ضيقة بادّعاء أنّ "هذه المنابر وهذه المجالس والتعازي ومواكب اللطم هي التي حفظت الإسلام".

فهذا قدرُ الشعوبيين الذين لا يكترثون لمصالح الغير ولا يعيرون اهتمامًا لحقوق الآخرين المختلفين معهم. قد يكون ذلك صحيحًا في بعض جزئياته عندما لا تؤذي غيرَك ولا تسلبُ حقَّ مواطنك الآخر الذي ينبغي احترام خياراته ودينَه ومعتقدَه ولا تسلك سلوكًا منافيًا للمصلحة العامة وتعطّل الشارع والمصنع والمعمل والدائرة بحجة المشاركة في هذه المشاعر التي ينبغي أن تكون ضمن حدودك ولا تتعدّى حدود غيرك.

هذا هو المنطق والعقل والحكمة في العيش المشترك واحترام حقوق الآخرين في بلدٍ متعدّد الأديان والمذاهب والإتنيات. وهذا ما كان عليه صاحب الأمر عندما قصدَ الإصلاح ودعا إليه وفق منهجه ورؤيته وطموحه، وليس بتحويل الشعائر إلى ركنٍ وسلوكٍ للتجارة والتبذير والهدر على حساب الدولة والمواطن بحجة كسب الأجر بهذه الطريقة.

ويا ليت القائد المنقذ بِصفات "الحجاج" الجديد الذي يحتاجُه العراق في الطريق إلينا سريعًا كي نرى النور في آخر النفق المظلم الذي وضعنا فيه ساسة الصدفة وأحزابُهم الفاشلة صاحبة مبدأ "التشارك والتوافق والتوازن".


مشاهدات 1055
أضيف 2022/08/31 - 4:31 PM
آخر تحديث 2024/11/21 - 10:06 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 148 الشهر 9619 الكلي 10052763
الوقت الآن
السبت 2024/11/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير